صناعة السعف في أحد الشعانين.. تقليد من القلب تتوارثه الأجيال

تصوير: فاطمة محمد - صناعة السعف

كتب/ت فاطمة محمد
2025-04-14 12:21:14

تحمل يد يوحنا إسحاق، 52 عامًا، حكايات طويلة تعود إلى سنوات مضت من العمل المتواصل في صناعة السعف اليدوي، يُعرف بإبداعه في تحويله إلى قطع فنية تحمل بين طياتها حب الحرف والتراث الشعبي الذي تناقلته الأجيال. 

مع كل حركة من يديه، تتناغم الخيوط والألياف ليظهر عمله بأناقة، سواء كان يصنع سلاسل أو صلبان، حيث يستطيع كل من يراه أن يشعر بجمال العمل اليدوي. 

يوحنا إعتاد منذ الصغر على صناعة السعف داخل كنيسة كاثوليك في محافظة أسوان، حيث أمضى سنوات طويلة في العمل على تحسين مهاراته وتطوير تقنيات الصنع، لإنتاج أشكال متعددة للاحتفال بأحد السعف.

صناعة السعف هي عادة دينية قديمة تعود إلى دخول السيد المسيح إلى أورشليم، حيث استقبله الشعب بسعف النخيل وأغصان الزيتون كرمز للنصر والسلام. 

ومنذ ذلك الحين، أصبح الخوص جزءً أساسيًا من طقوس الاحتفال بأحد السعف لدى الأقباط، حيث تشكله أيدي الأمهات والجدات في المنازل، وينتقل كتراث حي من جيل إلى جيل، تتمثل دلالته الروحية في صُنع الصليب من السعف تعبيرًا عن الإيمان.

أحد السعف أو عيد الشعانين هو الأحد السابع من الصوم الكبير والأخير قبل عيد الفصح، ويسمى الأسبوع الذي يبدأ به بأسبوع الآلام، وهو يوم ذكرى دخول يسوع إلى مدينة القدس، ويحلّ يوم 13 أبريل من كل عام.

يوحنا.. خيوط السعف تربط الأجيال

منذ طفولته، كانت يدا يوحنا إسحاق، تعانقان خيوط السعف بكل حب. يتذكر أنه في يوم من أيام أحد السعف، كان يرافق جدته إلى الكنيسة، ويشاهد الحشود يحملون الأشكال المبهرة المصنوعة من جريد النخل.

يقول: "منها صلبان وسيوف وطيور، تحمل بين طياتها قصة إيمان وتقاليد عريقة، كانت تلك الأشكال تأسر قلبي، وتنقش في ذاكرتي فكرة أن هذا العمل ليست مجرد حرفة، بل هي إرث، وقصة حياة، وحبل يربط بين الماضي والحاضر".

أيام قليلة مرّت حتى ابتسمت جدته وقالت له: "حان الوقت لتتعلم". وبدأت هي تعلمه أولى خطواته في هذا الفن، الذي أصبح جزءً لا يتجزأ من روحه. علمته كيف يطوي السعف لصنع صليب بسيط، ولم يكن الأمر سهلًا في البداية، فقد كانت يده ترتجف من القلق، لكن مع كل خطوة كان يقربه ذلك من عالمه، عالمًا مملوءًا بالأصالة والروحانية.

"اليوم، لا تزال يدي تُبدع من نفس المواد التي كنت أشاهدها في صغري، وإن كانت الأشكال قد تغيرت قليلاً، إلا أن الحب والاحترام للتقاليد ظل كما هو، كل عام، نجتمع في يوم أحد السعف مع أسرتي، نطوي الخوص ونصنع أشكالًا تلامس القلب، ويتنقل هذا التراث بين جيل وجيل، حاملًا معه الحكاية العريقة التي تعبّر عن الإيمان والحياة والتواصل"، يقول يوحنا.

يؤكد: "مع مرور السنوات، لم يعد هذا الطقس مجرد عادة دينية بالنسبة لي، بل أصبح الرابط الذي يجمع بين الماضي والحاضر، بين الجد والأحفاد، أنا دائمًا أتمنى ألا تذبل هذه الحرفة، وأن تظل أيدي الأطفال كما كانت يدي في يوم من الأيام، تحمل خيوطًا وتنسج الأمل وتجدّد روح الإيمان والتراث".

القمص داود: "السعف له دلالات روحية"

"صناعة الخوص ليست مجرد عادة بل تحمل دلالات روحية عميقة".. هكذا يصف القمص داود حليم، كاهن كنيسة القديس مارمرقس الرسول في منطقة السيل الجديد، الاحتفال بأحد الشعانين، يقول: "تُذكّر المؤمنين بدخول السيد المسيح إلى أورشليم كملك وديع ومتواضع، حين استُقبل بسعف النخيل وأغصان الزيتون في مشهد يرمز للسلام والانتصار الروحي".

ويُشكل السعف في هذا اليوم إلى صلبان وتيجان وأشكال رمزية، تعبيرًا عن الفرح والإيمان بقدسية الحدث.

ويضيف أن طقس أحد الشعانين يُعد محطة روحية مهمة في مسيرة الاستعداد لعيد القيامة، إذ يحمل فيه المؤمنون السعف وهم يرددون الترانيم والألحان التي تعبّر عن فرحهم بقدوم ملك السلام: "هذا الطقس يُذكرنا بمحبة المسيح وتواضعه، ويدعونا إلى دخول أسبوع الآلام بقلوب خاشعة تتأمل في معاني الفداء والخلاص".

كما أن للسعف بُعد روحي واجتماعي، لمشاركة العائلات والأطفال في هذا اليوم: "يُعد أحد السعف فرصة ثمينة لغرس قيم المحبة والسلام والإيمان في نفوس الأجيال الجديدة، من خلال رمزية السعف والمشاركة الجماعية، كما يعزز الروابط الأسرية، إذ يجتمع الجميع في الكنيسة، فتتكوّن ذكريات روحية دافئة تنتقل من جيل إلى آخر".

تحرص الكنيسة على ترسيخ طقس أحد الشعانين في الوجدان الجمعي للأجيال، من خلال التعليم الديني، وتشجيع المشاركة العائلية، والحفاظ على الطقوس والرموز، والاستفادة من الفنون والوسائل الحديثة، بحسب داود، إضافة إلى إشراك الشباب في تنظيم الاحتفال، فكل هذه الجهود تسهم في استمرارية تقليد حي يجمع بين الإيمان، والتراث، والمجتمع.

 

كاترين: "السعف محبة متوارثة"

تتشارك كاترين إيهاب، 45 عامًا، نفس الشعور مع يوحنا، فهي معتادة على صناعة السعف قبل الاحتفال بأحد الشعانين. بدأت كاترين رحلتها مع فن السعف منذ أن كانت طفلة صغيرة، حين كانت تجتمع مع والدتها وأخواتها كل مساء سبت استعدادًا ليوم أحد السعف. 

وتصف تلك اللحظات: "كنت أنتظر مساء السبت بفارغ الصبر كي تجلس والدتي وتعلمني، وأراقبها بشغف وهي تطوي السعف، وأحاول تقليدها، كان والدي يخرج خصيصًا للبحث عن السعف الذي لم يكن من السهل إيجاده في ذلك الوقت. تصنع لي أمه منه خاتمًا وغويشة ودبوسًا، وأتذكر كيف كنا نعيد المحاولة مرارًا وتكرارًا، نفك الخيوط ونعود لتشكيلها حتى أتقن".

ومع مرور السنوات، لم تقتصر كاترين على الأشكال البسيطة التي تعلمتها في طفولتها، بل تطورت مهارتها وصارت تصنع أطقمًا كاملة من الخوص، وتحملها معها إلى الكنيسة لتزيّن بها ملابسها، والتقاط الصور التذكارية. 

تتذكر قائلة: "في إحدى السنوات، لم أتمكن من شراء السعف، فاستعنت بما كان مع الأطفال في الكنيسة، وصنعت دبوسًا زينت به ملابسي، ورغم صعوبة توفر السعف أحيانًا، إلا أننا لم نتخل عن هذه العادة، منذ عشر سنوات كان السعف يتوفر بكثرة قبل العيد، ولكن اليوم أصبح من الصعب إيجاده، وإذا وجدناه يكون غالي الثمن، لكننا نصر على الاستمرار".

بالنسبة لكاترين، كما هو الحال مع يوحنا، تعتبر صناعة الخوص أكثر من مجرد حرفة، فهي تُمثل رابطًا روحيًا واجتماعيًا يجمع أفراد العائلة. "كنا نجتمع في بيت جدي، مع خالاتي وبنات خالتي، نصنع الخوص ونتشارك لحظات مليئة بالدفء، هذا الطقس كان يعزز من التواصل والمحبة بيننا".

وتضيف: "اليوم، أرى الأطفال يبدعون في تصميمات مذهلة، بل ويتفوقون أحيانًا على الكبار في ابتكار أشكال جديدة، ما يجعلني أشعر بالفخر أن هذا التقليد لا يزال حيًّا في قلوبهم، كما كان في قلوبنا".

رحلة كاترين مع الخوص هي أكثر من مجرد صناعة يدوية؛ هي قصة حب للتراث، ولحظات عائلية مليئة بالتقاليد والأمل، تتنقل من جيل إلى جيل، محملة بالقيم الروحية والاجتماعية التي تربطهم بالماضي وتعزز من تواصلهم مع بعضهم البعض.

يوحنا وكاترين والقمص داود، كلًا بطريقته، يرون في الخوص أكثر من مجرد حرفة؛ ويظل "أحد السعف" يومًا مميزًا، تجتمع فيه الأجيال على شرفات البيوت أو في باحات الكنائس، حيث تتشابك الأصابع مع خوص النخل لصناعته.

تصوير: فاطمة محمد - صناعة السعف