تحولت صالة منزل "ألفت" في أسوان إلى غرفة عمليات تضم الأكياس والأطباق البلاستيكية، وافترشت المتطوعات الأرض لتقسيم أصناف الطعام المُعد لتعبئته، فيما تابعت أخريات طهي الطعام بعناية؛ إجراءات تستغرق نصف يوم تقريبًا من العمل، ثم يذهب بعدها الجميع حاملًا الوجبات جاهزة إلى نازحين من السودان، ممن عبروا إلى مصر بعد فرارهم من الاشتباكات الدائرة هناك منذ ثلاثة شهور.
في هذه الغرفة، تحولت ألفت عيسى من مجرد متابعة للأحداث في السودان عبر شاشات التليفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي إلى متطوعة للمساعدة.
وألفت عيسى، شابة ثلاثينية، تقيم في أسوان، تعمل في كتابة السيناريو وتدريب أطفال قبيلتيّ العبابدة والبشارية في أسوان على فنون الحكي والمسرح، كما انخرطت في مبادرة لتوثيق تراث القبيلتين.
منذ عبور السودانيين إلى مصر كانت ألفت ترصد الأزمة، تقول لـ"عين الأسواني": “وضع القادمين صعب للغاية، والشوارع منذ قدومهم امتلأت بالنازحين، وبعضهم مستقر وضعه وآخرين لم يجدوا مكانًا للمبيت لدرجة أن بعض السيدات نزحن بملابس البيت وتركوا أمتعتهن خلفهن".
وبعد فترة بدأت تتواصل فورًا مع أقاربها لتوفير أماكن لإقامة النازحين، كما أتاحت تذاكر سفر وأدوية، وهو أمر حرصت عليه لمواجهة الاستغلال الذي عانى منه السودانيين حين ارتفعت قيمة إيجارات السكن ووسائل التنقل من المعبرين إلى أسوان.
نقطة البداية
مر الأطفال السودانيين في رحلة النزوح مع ذويهم بمشاهد صعبة وظروف قاسية؛ لذا وزعت ألفت الحلوى على الأطفال لعلها تُخفف قليلًا من مرارة الأزمة، بعدها بدأت في طهي أكثر من وجبة طعام مشبعة تكفي أسرة في منزلها ووزعتها في الأماكن التي احتاج فيها النازحين للمساعدة.
بعد ذلك استكملت مبادرتها الفردية بالانخراط في المساعدات التي تقدمها جمعية العبابدة والبشارية في منطقة السيل، خاصة وأنها تنتمي إلى قبيلة العبابدة.
وسعت ألفت لانضمام صديقاتها في المبادرة، تقول: “استطعنا مع مشاركة صديقاتي طهي كميات أكبر من الطعام وتقسيم المهام بمرونة، لذا تواصلت مع القائمين على جمعية العبابدة والبشارية وأخبرتهم بفكرتي".
من فتاة واحدة إلى خمس عشرة فتاة من قبيلة العبابدة بدأت المبادرة في التوسع، الفتيات اتخذن من منازلهن ساحة للطهي وتغليف الطعام.
في الصباح يخرجن جميعًا لشراء الخضراوات واللحوم بجودة جيدة وسعر مناسب، ثم يعدن إلى المنزل لطهي الطعام.
وقد تحولت صالة منازل الفتيات تقريبًا إلى ساحات خالية من السجاد والآثاث وامتلأت في أركانها بالأواني الكبيرة للطهي الذي يستمر من الصباح حتى المساء لإعداد 150 وجبة في المتوسط يوميًا.
من يدفع ثمن الوجبات؟
استطاعت ألفت وصديقاتها تدبير مبلغ مالي للإنفاق على شراء مؤن الوجبات، تقول: “جمعت هذه المبالغ مني ومن صديقاتي وأسرتي، وبعد وصول أنباء المبادرة للقبيلتين ولأعضاء الجمعية أمدّونا بنقود لشراء ما يكفينا".
تقوم خطة المبادرة على رصد أماكن إقامة السودانيين من أصحاب الأوضاع غير المستقرة، وهو ما وجدته المبادرة في مناطق "محيط وسط المدينة في محطة قطار أسوان، حديقة السلام، بعض العقارات بحي العقاد جنوب المدينة، ونُزل الشباب في بعض المناطق بالمدينة".
وتتميز نُزل الشباب بتوفير إقامة يومية بسعر رخيص لمن لا يتحمل أسعار الإيجارات المبالغ فيها، لكن يغيب عنها المطابخ والثلاجات لحفظ الطعام، لذا يشتري المقيمون الطعام الجاهز بقيمة 50 جنيه للوجبة الواحدة، عن هذا توضح ألفت: “اهتمت بالمبادرة بتقديم وجبات ساخنة للسودانيين، بالإضافة إلى توفير الأدوية التي يحتاجها المرضى، وتوفير الكشف الطبي لمن يحتاج وخاصة من يريدون إجراء جراحة عاجلة".
وتتكون الوجبات في المبادرة من "لحوم، أرز، أصناف الملوخية والفاصوليا"، ولهذا تشارك جميع نساء المنزل في الطبخ لضمان خروج الطعام طازج وجيد الطهي.
وقسم فريق المبادرة أفراده لمجموعات، مجموعة تطهي الطعام، أخرى تملأ الوجبات في الأواني، ثالثة تُغلف الطعام، ومجموعة رابعة وضعت رسائل ترحيب ودعم للنازحين.
وبنهاية العمل تحصر ألفت والفريق الأعداد المستفيدة في أماكن الإقامة، بجانب تقديم الوجبات للمقيمين في الشارع ممن ينتظرون الحصول على تذكرة سفر أو الوافدين الجدد، وينقلون الوجبات في سيارات تطوع أصحابها من الجمعية والقبيلتين، وذلك في تناغم كامل تصفه ألفت وتقول: "احنا كلنا واحد والقبائل ممتدة ومتصلة ببعض".