في مجتمع تهيمن عليه التقاليد والتقديس المطلق للموروثات؛ برز خليل عبد الكريم كصوتٍ مختلف، ناقد، ومشاكس، وُلد عام 1930 في مدينة أسوان، ونشأ في بيئة تقليدية محافِظة، لكنه لم يكن من أولئك الذين يقبلون الأمور كما هي دون تفكير.
شغف عبد الكريم منذ صغره بالقراءة والتحليل، وهو ما قاده لاحقًا ليكون أحد أبرز المفكرين المصريين في النصف الثاني من القرن العشرين، وواحد من أكثرهم إثارةً للجدل.
جامعة فؤاد
بدأ عبد الكريم مشواره الأكاديمي بدراسة القانون في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حالياً)، وتخرج منها عام 1951، حيث حصل على ليسانس الحقوق، لكنه لم يكن مجرد محامٍ تقليدي ينظر إلى القانون كنصوص جامدة، بل كان يعتبره أداة لفهم المجتمع وتحليل بنيته ولذلك، لم تقتصر دراسته على القانون وحده، بل انخرط في دراسة التاريخ، والفكر الإسلامي، وعلم الاجتماع، مما كوّن لديه رؤية نقدية تجاه الموروثات الدينية والأجتماعية.
إلى اليسار
خلال سنوات دراسته الجامعية، تأثر عبد الكريم بالتيارات الفكرية اليسارية التي شهدت انتشارًا واسعًا في مصر آنذاك، كان ناشط وعضو في حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، بعد أن كان قبلها قريبًا من التيارات الإسلامية، ما عرضه للسجن مرتين.
ومع مشاركته في تأسيس منبر اليسار، عام ١٩٧٦م قبل أن يتحول إلى حزب «التجمع الوطني التقدمي الوحدوي» حيث أصبح أحد قادة الحزب، وأحد مسئولي الاتجاه الديني فيه.
وصف "عبدالكريم" كتاباته بأنها الروح الحقيقة للمزج بين الإسلام الليبرالي والعدالة الإجتماعية، وظل مؤمنًا بأن التغيير لا يأتي إلا من خلال تحرير العقل، لا عن طريق التبعية العمياء لأي أيديولوجيا.
بحث وكتابة
لم يكن خليل عبد الكريم من أولئك الذين يختارون الطريق السهل، بل كان دائمًا يسعى لتفكيك المسلّمات وإعادة قراءتها وفقًا لمنظور عقلاني تاريخي ولذلك، كرس حياته للبحث والكتابة، فأنتج مجموعة من الكتب التي أثارت جدلًا واسعًا، من أبرزها: "الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية" وهو كتاب يعيد النظر في كيفية تشكّل الشريعة الإسلامية وتأثرها بالأنظمة القانونية والاجتماعية السابقة، و"قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية" الذي تناول التحولات السياسية والاجتماعية التي مرت بها قبيلة قريش حتى أصبحت قوة سياسية مهيمنة.
كتاباته
بينما ناقش في كتابه "الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية"، الفرق بين الإسلام كعقيدة والإسلام كنظام سياسي، ويفكك مفاهيم الدولة الإسلامية الحديثة والعديد من الكتب الأخرى، مثل: "مفاهيم خاطئة الصقوها بالإسلام"، و"تطبيق الشريعة لا للحكم"، و"مجتمع يثرب"، و"شدو الربابة بأحوال الصحابة"، و"العرب والمرأة"، و"دولة يثرب"، و"فترة التكوين في حياة الصادق الأمين"، وكانت آخر كتاباته "النص المؤسس ومجتمعه".
هجوم إسلامي
أثارت كتابات عبدالكريم عدة صدمات فكرية للمجتمع، حيث هاجمته التيارات المحافظة بشدة، واتّهمته بالزندقة والتجديف، خاصة أنه لم يكن يُقدّم قراءته ضمن الإطار التقليدي المعتاد، بل كان يتبنى نهجًا تحليليًا يعتمد على السياق التاريخي والاجتماعي للنصوص الدينية.
ولم تكن معارك عبد الكريم فكرية فقط، بل كانت شخصية أيضًا، فقد عانى من العزلة المجتمعية، وتعرّض لموجات متواصلة من الهجوم والتهديد، حتى أن بعض كتبه مُنعت من النشر في فترات معينة. لكنه رغم ذلك لم يتراجع، بل كان يرى في كل محاولة لتكميم صوته دافعًا للاستمرار في طرح الأسئلة التي يخشى الآخرون طرحها.
ملاحقات
كما أن السلطة لم تكن متسامحة مع أفكاره، حيث خضع للملاحقة الأمنية أكثر من مرة، خاصة في ظل تصاعد نفوذ التيارات الإسلامية السياسية في الثمانينات والتسعينات ومع ذلك، لم يسعَ للمهادنة، بل ظل متمسكًا بمواقفه حتى النهاية.
ورغم أنه لم يكن يُنكر إيمانه الشخصي، إلا أن خليل عبد الكريم كان يرفض القراءات المتزمتة للنصوص الدينية، وكان يصرّ على أن الإسلام، كأي دين آخر، تأثر بالظروف التاريخية والاجتماعية، وفيما لم يكن يدعو إلى الإلحاد، كما اتهمه البعض، كان يدعو إلى فهم أكثر انفتاحًا وعقلانيًا للدين، وهو ما جعله عرضة لتشويه صورته في الإعلام وفي أوساط الجماعات المحافظة.
رؤية
كان يرى أن الإسلام لم يُبنَ في فراغ تاريخي، وأنه تأثر بالحضارات المحيطة به، سواء كانت فارسية، رومانية، أو حتى تقاليد الجزيرة العربية قبل الإسلام وهذا الطرح لم يكن مقبولًا لدى المؤسسة الدينية الرسمية، التي كانت تعتبر أن الإسلام جاء كاملًا غير متأثر بأي عوامل خارجية.
وفاته
توفي في شهر أبريل من عام 2002، بمحافظة القاهرة إلا أنه نقل إلى محافظة أسوان، بناءاً على وصيته بالدفن في مسقط رأسه.
رغم وفاته ، لا يزال إرث خليل عبد الكريم حاضرًا حتى اليوم، حيث تستمر أفكاره في إثارة الجدل بين الباحثين والمفكرين فالبعض يراه رائدًا للتنوير في مصر، بينما يراه آخرون مفكرًا مثيرًا للفتنة.
الشيخ الأحمر
لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أنه كان واحدًا من أكثر العقول جرأة في العالم العربي، وأنه قدّم رؤية مختلفة لما يعتبره الكثيرون ثوابت لا تُمسّ كما أن كتاباته ساهمت في فتح أبواب النقاش حول قضايا كان يُنظر إليها على أنها من المحرّمات الفكرية.
كان خليل عبد الكريم فارسًا للكلمة، ومحاربًا بالفكر، لم يكن مجرد باحث أكاديمي، بل كان مفكرًا صاحب رسالة، أراد أن يحرر العقول من القيود المفروضة عليها، ولو كان الثمن هو العزلة والهجوم المستمر، حتى لقبه خصومه بالشيخ الأحمر بسبب توجيهاته اليسارية، حيث أن اللون الأحمر يرمز في الثقافة السياسية الدارجة إلى التيارات السياسية اليسارية".
أثر عميق
قد يختلف البعض معه، لكن لا أحد يستطيع إنكار أثره العميق في الفكر العربي الحديث فقد كان رجلًا لا يقبل أن يكون مجرد تابع للصوت الأعلى، بل كان دائمًا يسير ضد التيار، مدفوعًا بإيمانه بأن التغيير الحقيقي يبدأ بكسر القيود الذهنية قبل أي شيء آخر.
ورغم رحيله، سيظل اسمه حاضرًا في كل نقاش فكري حول العلاقة بين الدين، والتاريخ، والمجتمع، وسيبقى كتابه وقلمه شاهدين على رحلة فكرية لم تكن سهلة، لكنها كانت حتمية لرجل آمن بأن الحرية تبدأ بالسؤال.