بحسب خريطة تفاعلية طرحها موقع "Arcgis"، وهو موقع جغرافي يعتمد على صور الأقمار الصناعية، يظهر قطاع غزة بأكمله تغطيه نقاط حمراء وإلى جانبها تتوزع ألوان أخرى كالأخضر والأصفر والبرتقالي والرمادي. ألوان استخدمها الموقع لبيان حجم الدمار الذي لحق بأرض القطاع وما عليها من مبان وبنية تحتية وأراض زراعية. يبدو القطاع وكأن الاحتلال لم يترك قطعة فيه إلا وأسقط عليها قذائفه التي يعلن دون خجل أن الواحدة منها تزن 2000 رطلًا، يقدمها إليه -ولا يزال- حلفاؤه الدوليين وأبرزهم الولايات المتحدة الأمريكية دون اعتبار لقوانين دولية أو حقوق انسانية.
وخلال عام واحد دمّر الاحتلال الاسرائيلي عبر قصف متواصل لقطاع غزة إثر عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها المقاومة في 7 أكتوبر 2023، ما يقارب 75% من مباني القطاع وبنيته التحتية.
توضح الخريطة أن الاحتلال تعمّد تدمير أحياء سكنية بالكامل، مثل: خان يونس وجباليا وبيت لاهيا، وتشير إليهم باللون الأخضر، بينما تشير بالأحمر إلى حي دير البلح، حيث تم تدميره نصفه تقريبًا كدمار جزئي، كغيره من أماكن أخرى متفرقة في رفح التي يتركز فيها النازحين الفلسطينيين الآن.
يقول السفير محمد العرابي -رئيس المجلس المصري للشؤون الخارجية ووزير الخارجية الأسبق- لـ "صوت السلام" إن الاحتلال الإسرائيلي يتعمد جعل قطاع غزة "منطقة غير صالحة للحياة". مشيرًا إلى أن ذلك هو آحد أساليبها لإجبار الفلسطينيين على ترك الأرض، وأن "إحراق الأرض" هي سياسة ممنهجة معروفة من الاحتلال لجعل الشعب الفلسطيني البطل الذي صمد سنة كاملة في إنه يترك أرضه.
منهجية متعمدة.. وليس "ردًا"
يتفق العرابي وباقي الخبراء الذين تحدثنا معهم في هذا التقرير سياسة الاحتلال الاسرائيلي بأنه "ممنهج ومتعمد". فبينما يقاوم الفلسطينيون دفاعًا عن أرضهم، لا يتوانى الاحتلال في استغلال أي تصرف لتدمير أكبر مساحة من الأرض سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية أو خارج نطاق سيطرته المباشرة. يظل يدّعي أنه فقط يقوم بالرد على ما قامت به المقاومة، إلا أنه بالنظر إلى ما يحدث منذ عام على أرض الواقع، يتمنى الاحتلال "إبادة" القطاع ولا يمنعه سوى المقاومة.
وقد تفاجأ العالم منذ فجر السابع من أكتوبر 2023، بشن المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عملية "طوفان الأقصى" التي شملت هجوما بريا وبحريا وجويا للمقاومين إلى عدة مستوطنات في غلاف غزة. أسفرت في ساعاتها الأولى عن أسر ما بين 200 إلى 250 ما بين جنود في قوات الاحتلال الإسرائيلية ومستوطنين، وذلك وفقًا لأبوعبيدة، المتحدث الإعلامي لكتائب القسام الفلسطينية، وإغلاق المطارات المحلية وسط وجنوب إسرائيل أمام الإستخدام التجاري، وإلغاء عشرات الرحلات الجوية إلى تل أبيب عبر مطار بن غوريون.
في يوم واحد، هدمت المقاومة محاولات مستمرة لاسرائيل بأنها "لا تُهزم"، لذا خلال شهر واحد فقط من عملية "طوفان الأقصى"، دمرت قوات الاحتلال ما يقارب 50% من مساكن غزة عبر قصفه بالقنابل، وذلك وفقًا لتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وبحسب خريطة أطلقها منصة "محرك جوجل الخاص بالأرض" لشكل الدمار في القطاع، يسيطر اللون الرمادي على الخريطة في الأحياء الأكثر تدميرًا، كإشارة للركام المتواجد، وتدمير المساكن.
وقد نشر الموقع الرسمي للأمم المتحدة التحديث التاسع، الذي يصدره مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية، لتقييمه للأضرار التي لحقت بالمباني في قطاع غزة والذي يظهر أن ثلثي إجمالي المباني في القطاع لحقت بها أضرار، وأوضح التقرير أن 66% من المباني المتضررة في قطاع غزة، وتشمل ما يقارب 163 ألف مبنى.
ورغم أن القانون الدولي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يمنحان حق "المقاومة" و "أنه من حق الشعوب المستعمرة المقهورة في أن تحرر نفسها من أغلال السيطرة واللجوء إلى كافة الوسائل التي يعترف بها المجتمع"، لا يتوانى الاحتلال الإسرائيلي أن يقوم بانتهاكات واعتداءات ضد الفلسطينيين بكل فئاتهم سواء داخل الأراضي المحتلة أو غير المحتلة.
بل تسعى اسرائيل منذ 7 أكتوبر أن تزيد مساحة منطقتها العازلة حول مستوطناتها على حدود غزة أخذًا من أراض القطاع، والتي يعلق عليها العرابي، قائلًا: “سياسات المنطقة العازلة هي مخططات إسرائيلية تستهدف تقسيم غزة لعدة مناطق حتى يسهل السيطرة عليها، وكلها محاولات لكن في النهاية النتيجة مش هتكون واضحة في المرحلة الحالية؛ لأن أحنا لسه في مرحلة إجراءات غير واضحة من جانبهم".
ضرب الحياة في غزة
وتعرضت البنية التحتية للتدمير بعد مرور عام على الحرب وتحولت 59% من مباني القطاع الفلسطيني إلى ركام وذلك استناداً إلى صور أقمار اصطناعية أميركية قام بتحليلها الباحثان كوري شير وجايمون فان دي هويك، وتعادل هذه النسبة نحو 169 ألف مبنى.
يستهدف الاحتلال الاسرائيلي وفقًا لـ أحمد عمر -مهندس مصري ومؤسس مبادرة "عين" عمارة من أجل الإنسان- في حديثه مع "صوت السلام" إلى "ضرب عصب الحياة داخل قطاع غزة". ويضيف: "في أول أيام الحرب، ضربت قوات الاحتلال محطة الكهرباء الأساسية للقطاع، لقطع خدمة أساسية للسكان، ثم انتقلت لقتل المعمار الاجتماعي، بقصف المساجد والكنائس والنوادي الرياضية، كطريقة لفسخ الحياة الاجتماعية، من أشهرهم قصف مسجد "خالد ابن الوليد" في خانيونس، الذي كان بمثابة تجمع إنساني في الحي، ويقدم أنشطة لجميع الفئات العمرية”.
تشير وكالة الأنباء الفلسطينية، أن الاحتلال دمر 25 ألف كيلومتر من شبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي والطرق والشوارع، وتصف ذلك بأنه "مقصود ووفق خطة تدميرية مدروسة"، وتضيف: " تعمد الاحتلال تدمير 70 بئرا للمياه وإخراجها عن الخدمة بشكل كامل، حتى بات الحصول على المياه في قطاع غزة مسألة كبيرة وصعبة للغاية".
يدلل عمر على هذا التعمد مشيرًا إلى أن الاحتلال انتقل بعد ذلك إلى قصف المناطق الحيوية الخاصة بالسكان، مثل المنازل وأماكن العمل والأسواق والطرق والمدارس والجامعات ليضرب كل أشكال الحياة، ويدفع السكان إلى الاستمرار في النزوح، وبحسب تقرير للأمم المتحدة تم تدمير 84% من المستشفيات والمنشآت الصحية، وبالنسبة لنظام التعليم فقد انهار، وبات 100% من الأطفال خارج المدارس.
ويشير عمر أن القصف انتقل بعد ذلك إلى التراث القديم لغزة، متعمدًا انتهاك التراث الفلسطيني. وقد أعلنت منظمة اليونسكو تضرر 69 موقعاً منذ 7 أكتوبر 2023 جرّاء القصف الاسرائيلي، إذ تضررت 10 مواقع دينية و43 مبنى ذي أهمية تاريخية و/أو فنية ومستودعات للممتلكات الثقافية المنقولة و6 صروح أثرية ومتحف واحد و7 مواقع أثرية، فضلًا عن تدمير 90% من الحدود الشرقية.
واستغل الاحتلال الحرب أيضًا للاستيلاء على الأراضي الزراعية الفلسطينية، وتدميرها بحجة الدواعي الأمنية والعسكرية، فبحسب بيانات هيئة مقاومة الجدار والاستيطان وضعت قوات الاحتلال يدها على 750 دونماً (وحدة قياس =1000 متر مربع) من الأراضي الزراعية في محافظتي طوباس طولكرم، وجرفت ما يقرب من 95% من الأراضي الزراعية بحسب "منظمة الاغاثة الزراعية الفلسطينية"، أي ما يزيد عن 20 دونما (وحدة قياس = 1000 متر مربع)، كما اقتلعت أكثر من 600 شجرة مثمرة، وهدمت عددا من المنشآت والآبار الزراعية للمواطنين في بلدة "بيت أولا" غرب الخليل.
ودمرت قوات الاحتلال جميع الأراضي الزراعية على امتداد السياج الأمني الفاصل شرقي قطاع غزة وشماله بعمق يصل إلى قرابة 2 كيلو مترًا، وبذلك تكون أخرجت ما يقارب من 96 كيلو مترًا مربعًا، في محاولة لضمها للمنطقة العازلة بما يخالف قواعد القانون الدولي، يضاف إليها نحو 3 كيلو مترات مربعة، جراء شق طريق ومنطقة عازلة تفصل مدينة غزة عن وسطها من محور نتساريم، مبينًا أن هذه المساحة تمثل نحو 27.5% من مساحة قطاع غزة.
منهجية مكررة
في كتابه "رأيت رام الله"، يقول مريد البرغوثي: "لم نخسر فلسطين في مباراة للمنطق، لقد خسرناها بالإكراه والقوة". فنهج اسرائيل في ممارسة الانتهاكات بينما تعلم أن لديها "فيتو" أمريكي، ودول أخرى تحميها من العقاب، ليس حديثًا، فمن خلال خريطة جغرافية زمنية على منصة "جوجل إيرث" توضح فترة الانتفاضة الفلسطينية الثانية، من 2000 حتى 2005، تزايد مساحات الدمار "باللون الرمادي"، في الأحياء نفسها التي استهدفتها قوات الاحتلال على مدار هذا العام.
واستغل الاحتلال الإسرائيلي الانتفاضة الفلسطينية لبناء جدار احتلت بسببه على 11 قرية فلسطينية وضمها إلى الأراضي المحتلة، واتخذ نفس الانتهاكات تقريبًا من حصار للقطاع مستهدفًا حرمان الفلسطينيين من خدماتهم الأساسية، وسرقة موارد القرى من آبار المياه وتجريف الأراضي؛ فـ بحسب الوكالة الفلسطينية "وفا"؛ سرق الاحتلال 50 بئر مياه جوفي، توفر 7 ملايين متر مكعب من المياه، وجرف ما يقرب من 74000 دونم (1000 متر مربع) أرض زراعية يمتلكها الفلسطنيين، وقلع مليون ومائتين ألف شجرة منذ اندلاع الانتفاضة.
وجاء قرار بناء الجدار العازل في أبريل 2001، لفصل قطاع غزة عن باقي الأراضي الفلسطينية، ويبلغ طول مسار الجدار في الضفة الغربية 712 كيلومترا، ويبلغ طوله في محيط مدينة القدس نحو 202 كيلو متر، ويعزل 43% من مساحة محافظة القدس، ليكون بداية الفصل العنصري، وسرقة الأراضي الفلسطينية والبنية التحتية.
يصف أيمن رقب -أستاذ علوم سياسية بجامعة القدس، وهو أحد الشاهدين على الانتفاضة و7 أكتوبر- لـ "ًصوت السلام"، ما يحدث على مدار العام لم يشهده تاريخ الصراع الفلسطيني ضد الاحتلال، مشيرًا إلى أن اسرائيل تحاول أن توسع سياسة الأرض المحروقة التي تهدف لمحو وتدمير مربعات سكنية كاملة وأحياء، خاصة في ظل عدم إيقافها من أيًا من الأطراف الدولية. ويضيف: "ما نشهده خلال العام كبير جدًا، لم نشهده حتى في الأنتفاضة الثانية، وذلك يشير إلى أن الاحتلال هذه المرة يحاول السيطرة على قطاع غزة".
ويكمل رقب - أستاذ علوم سياسية بجامعة القدس- أن الاحتلال استخدم أسلحة محرمة دوليًا، لقصف المدنيين والأحياء، ليصل الصاروخ الواحد منهم الي 2000 رطل، والتي تمدها بها الولايات المتحدة الأمريكية، مشيرًا إلى أن بعض الأحياء تبدو وكأنها ضُربت بقنبلة نووية مقارنة بحجم الدمار.
تكلفة إعمار القطاع
وتشير التوقعات بأن تكلفة إعادة إعمار غزة، ستحتاج إلى 50 مليار دولار، بينما في تقرير صدر عن البنك الدولي والأمم المتحدة، أن تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة تُقدر بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97% من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.
وتواصلت "صوت السلام" مع عمر سليم -مهندس مصري وعضو بالهيئة العربية الدولية للإعمار في فلسطين- الذي أوضح أن تقديرات تكلفة إعادة الإعمار تتراوح بين 50 و80 مليار دولار، مع تحديات كبيرة تشمل إزالة حوالي 42 مليون طن من الأنقاض وإعادة بناء البنية التحتية الحيوية مثل الطرق والمستشفيات.
ويكمل سليم أن تكلفة إزالة الأنقاض وحدها تصل إلى 700 مليون دولار، تأخذ في الاعتبار الضرر الجسيم الذي لحق بـ 45,000 وحدة سكنية وعدد كبير من المنشآت التعليمية والصحية، حيث دُمّر 72% من الأبنية كليًا أو جزئيًا، ما يجعل عملية إعادة الإعمار معقدة وطويلة، حسب وصفه.
وبالعودة إلى 2014؛ يشير سليم أن تكلفة إعادة الإعمار بعد حرب 2014 تقدر بحوالي 8 مليارات دولار، "بينما كانت تكلفة إعادة الإعمار بعد الانتفاضة الثانية أقل بكثير ولم تصل إلى مثل هذه الأرقام الهائلة" .
ويتواجد سكان القطاع حاليًا، بعد مرور عام، في مساحة جغرافية صغيرة في "مدينة رفح الفلسطينية"، يتخيلون تحول منازلهم وشوارعهم، أراضيهم وذكرياتهم إلى ركام، لا يفارق ذاكرتهم شكل القصف، أو شعور فقد أحد ابنائهم واقاربهم، وجيرانهم، فـ تنقطع علاقتهم بأرض القطاع، التى نزعوا من جذورها منذ أول لحظة بعد 7 أكتوبر الماضي، إلا أنهم لا زالوا حتى الآن يقاومون لأنهم "أصحاب الارض".