مع كل عيد، يتكرر المشهد ذاته في منزل عصام ممدوح، ثلاثيني. بعد الصلاة يمسك بأيدي أطفاله، يحيطهم بحب لا يملك سواه، بينما تتصاعد أسئلتهم المعتادة: "هنخرج فين النهارده يا بابا؟" يتنهد، يبحث عن إجابة جديدة لكنه لا يجد، ثم يبتسم قائلاً: "هنروح البيت، نأكل كحك، ونشرب شاي بلبن".
تتكرر الطقوس ذاتها كل عام في عيد الفطر المبارك، يظل الأطفال بين جدران المنزل الضيقة، حيث لا متنفس للعائلة ولا مساحات خضراء تسع فرحتهم الصغيرة.
يقول الأب: "مشكلتي مش في دوشة البائعين، بالعكس.. صوتهم جزء من يومنا، لكن يا ريت فيه حديقة حتى لو صغيرة، تبقى جنب بيتنا". يصف ممدوح حال شارع الفتح في حي دار السلام حيث يعيش.
لا مكان للأخضر
الشارع سوقٌ مفتوح، تعجُّ أركانه بالنداءات اليومية، لكنه يفتقد لأبسط المساحات الخضراء، البعيدة عن أطفاله الذين يتمنون مكانًا قريبًا للعب والاحتفال بالعيد.
يزدحم الإسفلت بالناس والمباني في حي دار السلام التابع لمحافظة القاهرة، فلا توجد حدائق أو ملاهي، ولا أماكن عامة تحتضن الأطفال في عيد الفطر المبارك، إذ يختفي خيار التنزه كل عام كما يختفي الأمل في عيد مختلف؛ بسبب افتقاد الحي وسائل الترفيه الممكنة، وهو واقع يعكس أزمة أوسع تعاني منها العاصمة بأكملها.
في عام 2020، انخفض متوسط نصيب الفرد من المساحات الخضراء العمرانية في القاهرة إلى أقل من 0.74 متر مربع، أي أقل من الحد الأدنى الذي توصي به منظمة الصحة العالمية بفارق 8.26 أمتار مربعة، وفقًا لورقة بحثية صادرة عن مركز حلول للسياسات البديلة عام 2022.
وأرجعت الورقة البحثية هذا الانخفاض إلى فقدان القاهرة 910,894 مترًا مربعًا من مساحاتها الخضراء المحدودة بين عامي 2017 و2020، نتيجة مشروعات الكباري والجسور، مما زاد من تقلص المساحات الترفيهية في دار السلام.
أين يذهب الأهالي؟
يضطر ممدوح وسكان الحي إلى البحث عن مساحات ترفيهية في أحياء أخرى، مثل مصر القديمة والمعادي، لكنهم يواجهون صعوبات عديدة، أبرزها بُعد المسافة، والزحام الناتج عن تكدس سكان المناطق المجاورة، وارتفاع الأسعار، مما يجعل الخروج للترفيه عبئًا إضافيًا بدلًا من أن يكون فرصة للاحتفال.
ذلك ما حدث مع ممدوح في أحد الأعياد السابقة، حين قرر اصطحاب أسرته إلى المعادي للتنزه، لكن اليوم انتهى بإنفاق 700 جنيه. ورغم توفر الأنشطة الترفيهية هناك، فإن أسعارها مرتفعة، حيث لا يقل سعر أي نشاط عن 100 جنيه للفرد.
لذا يُرحم أبناء ممدوح من التنزه في العيد، بينما يؤكد جمال فرويز، استشاري الطب النفسي لـ"صوت السلام" أن الترفيه يُعدّ أحد الاحتياجات الأساسية للإنسان، وفقًا لهرم "ماسلو" للاحتياجات النفسية، إذ يسهم في إعادة البناء الذهني والجسدي، مما يساعد الأفراد على العودة إلى العمل أو الدراسة بطاقة متجددة.
يظهر حي دار السلام على خرائط "جوجل" باستخدام الأقمار الصناعية مثل شبكة من الشوارع الرئيسية التي تتفرع منها أزقة ضيقة، تتخللها مبانٍ متلاصقة تسيطر عليها الكتل الأسمنتية.
يغلب اللون الأصفر للمباني على المشهد، بينما لا يبدأ اللون الأخضر، الذي يمثل المساحات الخضراء، في الظهور إلا عند الانتقال باتجاه حي المعادي، حيث تتزايد الحدائق والمساحات المفتوحة.
ويشير فرويز، إلى أن امتناع الأسر عن ممارسة الأنشطة الترفيهية يشكل أزمة تؤثر على كل من البالغين والأطفال، حيث يحرمهم من وسائل تجديد طاقتهم، الأمر الذي يؤثر سلبًا على إفراز هرموني "الدوبامين والسيروتونين"، المعروفين بدورهما في تعزيز الشعور بالسعادة وتنظيم الحالة المزاجية: "نقص تلك الهرمونات يؤدي إلى اكتئاب الأطفال".
تتضاءل مساحات الترفيه
تواجه أسرة سناء سعيد الأزمة ذاتها كل عام خلال عيد الفطر، حيث تعيش في شارع الفيومي بحي دار السلام. وتشير إلى أن المساحات الترفيهية تتضاءل مع عدم وجود حدائق عامة.
تقول: "نفسي عيالي يلعبوا في مساحة خضراء، خاصة في العيد، لكن مفيش مكان قريب، الكورنيش في المعادي أو جاردن سيتي أقل زحمة لكن غالي ومش مسموح بدخول الأكل، ولو اشترينا هندفع أكتر، نفسنا في أي مساحات خضراء في دار السلام".
يعكس هذا الواقع التراجع المستمر في المساحات الخضراء بالقاهرة الكبرى. بحسب دراسة خرائطية صدرت عن مركز الإنسان والمدينة للأبحاث الإنسانية والاجتماعية (غير حكومي)، فإن المساحات الخضراء تناقصت في إقليم القاهرة الكبرى الذي يضم حي دار السلام من 5.3 مليون متر مربع عام 2013 إلى 4.79 مليون متر مربع عام 2022، مسجلة تراجعًا بنسبة 9.6%.
وأكدت الدراسة البحثية أهمية المساحات الخضراء داخل الأحياء السكنية، حيث توفر بيئة آمنة للأطفال للعب، ومساحات للمشي والتريض والاسترخاء والترفيه، مشيرة إلى أن مساحة هذه الحدائق يجب أن تصل إلى 20 فدانًا، وألا تبعد أكثر من كيلومتر واحد عن المناطق السكنية لضمان سهولة الوصول إليها.
الجبخانة.. ترفيه يعج بالأزمات
تتناقض تلك المسافة مع ما يعيشه أهالي دار السلام، فإذا أرادت أسرتا ممدوح وسناء الوصول إلى أقرب منتزه سيكون بعيدًا عنهم بمسافة 4 كيلو مترات، وهو منتزه الجبخانة في عزبة خير الله الذي افتتح العام الماضي بتكلفة 40 مليون جنيه.
يعج المنتزه بعدة أزمات، منها بُعد المسافة وتكلفة المواصلات. بحسبة بسيطة تحتاج أسرة عصام المكونة منه وزوجته وأربعة أطفال مبلغ للوصول إلى المنتزه.
أزمة أخرى تكشفها تجربة أنعام مصطفى، ربة منزل، وهي أن الطريق إلى المنتزه غير ممهد أو آمن. تقول: "روحنا الساعة 8 مساءً، كان المكان هادئ بطريقة مريبة، والطريق للمنتزه مش آمن، لازم نعدي من طريق الجبخانة وهو مكان معزول".
ورغم زيارتها السابقة، ترى أنعام أن المنتزه يحتاج إلى اهتمام أكبر بالطرق المؤدية إليه، خاصة أنه مكان مخصص للعائلات والأطفال، الذين يستحقون بيئة آمنة للوصول إليه، لهذا تفكر جديًا في عدم الذهاب إليه مجددًا خلال العيد.
يضم المنتزه أربعة ملاعب متنوعة ومساحات للأطفال، إلى جانب مطاعم و"كافيهات"، لكن تجربة فاتن محمد، ربة أسرة من دار السلام لم تكن مرضية. لأن المنتزه يعتمد على تأجير الملاعب بالساعة دون تنظيم أنشطة رياضية بأسعار رمزية لأبناء الحي، ما يجعله أقرب إلى مشروع تجاري وفقًا لها.
لذلك، لا تخطط فاتن لاصطحاب أبنائها الثلاثة إليه خلال عيد الفطر، قائلة: "هروح أقعد أنا والعيال نشرب عصير ونمشي، مفيش إضافة جديدة ولا أنشطة تميز المكان ومفيش في دار السلام أي حدائق".
يأتي ذلك في ظل محدودية المساحات الخضراء على مستوى الجمهورية. حتى العام 2017، بلغ عدد حدائق الحيوانات والمتنزهات والحدائق العامة وحدائق النباتات في مصر 1802 حديقة، بإجمالي مساحة 5.3 مليون متر مربع.
ومع ذلك، لا تتوافق هذه المساحة مع المعايير التي حددها المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية، والتي تشترط توفير حديقة لكل 3000 إلى 5000 نسمة، بمعدل 0.8 إلى 1.6 متر مربع للفرد وفق الدراسة الخرائطية.
وفقًا لهذه المعايير، تحتاج مصر إلى 120.7 مليون متر مربع من المساحات الخضراء، ما يعني عجزًا يصل إلى 115 مليون متر مربع، وتتصدر محافظة القاهرة القائمة بعدد 190 حديقة قومية، تغطي مساحة 1.7 مليون متر مربع، بما يعادل 32% من إجمالي الحدائق في مصر.
يقترح جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، على سكان المناطق التي تفتقر إلى وسائل الترفيه البحث عن بدائل تمنحهم الشعور بالسعادة، مؤكدًا أن التأثير النفسي للسعادة لا يمكن تعويضه بمجرد المشي أو قضاء الوقت مع الأسرة والأصدقاء.
في كل عيد، يجد أهالي دار السلام أنفسهم أمام معضلة متكررة. لا حدائق، لا متنزهات قريبة، ولا حتى مساحات خضراء تتيح لأطفالهم فرصة اللعب بحرية، وفي ظل ارتفاع تكاليف الترفيه في المناطق المجاورة، يصبح الخروج عبئًا إضافيًا بدلًا من كونه احتفالًا بالعيد