تغادر "يسرية محمد" منزلها كل صباح سيرًا على الأقدام حتى كوبري "دار السلام"، كي تستقل ميكروباصات الجيزة التي تمر من تحته في طريقه إلى حي المنيل، حيث تعمل بإحدى الكافيتريات المواجهة للنيل، لكن ذلك السيناريو الذي اعتادته لسبع سنوات متصلة، كان ينتظره، صباح الجمعة الماضي، تغييرًا أرّق رحلتها اليومية وزاد من صعوبتها.
فالمرأة التي توشك على دخول عقدها السابع، لا تهتم بمتابعة الأخبار عمومًا إلا ما يؤثر مباشرة على تلبية حاجاتها الأساسية، لذلك لم تنتبه إلى قرار محافظة القاهرة إغلاق كوبري الملك الصالح الذي يربط شمال الجيزة بجنوب القاهرة، يوم الخميس الماضي، وأدهشها كثيرًا أن يخبرها السائق بضرورة النزول عند كوبري الروضة المواجه لقصر الأمير محمد علي، حتى تعبر إلى حي المنيل، ما يعني اضطرارها السير على قدميها نحو مايزيد عن كيلو ونصف حتى تصل إلى مقر عملها القريب من كوبري عباس، لكن مأساتها الحقيقية لم تكن في طريق الذهاب وإنما العودة، الذي استطال، بعد الإغلاق، إلى أكثر من ساعة بعد أن كان يستغرق نحو 20 دقيقة فقط.
يُعدّ شارع الروضة الذي يبدأ بكوبري الملك الصالح وينتهي بكوبري عباس، منفذًا رئيسًا لسكان المحافظتين للعبور إلى الضفة الأخرى من النيل، التي يتواجد على شطريها، الكثير من أماكن العمل والدراسة على السواء، فبين مدرسة الملك الصالح الثانوية وجامعة القاهرة على الضفة الأخرى عشرات الشركات والمطاعم والمتاجر والمصالح الحكومية التي يعمل بها أهالي المنطقتين على اختلاف وظائفهم.
وأعلنت محافظة القاهرة، يوم الخميس الماضي،إغلاق شارع الروضة من الاتجاهين، بداية من الجمعة ولمدة أسبوع تالِ، لتجريب المسارات البديلة للطريق الذي سيخرج من الخدمة خلال تنفيذ أعمال المرحلة الأولى من الخط الرابع للمترو، الممتد من الفسطاط حتى مدينة 6 أكتوبر، وصار على القادم من الجيزة (كوبري عباس) باتجاه الملك الصالح أن يسلك شارع عبد العزيز آل سعود، مرورًا بشارع الملك المظفر أو شارع المماليك البحرية، ثم شارع الملك الصالح، أما القادم من الاتجاه المعاكس فيسلك شارع متحف المنيل ثم شارع حنفي الطرزى أو محمد صدقى ثم شارع عبد العزيز آل سعود، واستكمال الطريق.
ومثل "يسرية" يسكن محمد حاتم، الطالب بالمرحلة الثالثة من الثانوية العامة في مدرسة الملك الصالح الثانوية، حي دار السلام، ورغم أن مدرسته تقع على الكورنيش من جهة حيه، فإنه يضطر وزملائه من سكان حي مصر القديمة، للذهاب يوميًا إلى المنيل، الذي تتركز به مراكز الدروس الخصوصية التي تخدم طلاب مدرسته، وبعد أن خاض رحلة شاقة عصر الجمعة الماضي نفسه، أدت إلى تأخره عن موعد درسه لنصف ساعة كاملة، قرر "حاتم" الذي استعان بموقع جوجل للوقوف على أسباب غلق الشارع، تغيير موعد دروسه خلال الأسبوع إلى أوقات متأخرة من الليل حيث تكون الكثافة المرورية أقل.
ورغم أن الهدف من ذلك الغلق التجريبي، قصير المدة، هو الوقوف على نجاح المسارات البديلة للشارع الرئيسي عند البدء في تنفيذ إغلاقه الفعلي، فإن محافظة القاهرة، أو الإدارة العامة للمرور التابعة لوزارة الداخلية، لم تعلن في أي من الأيام السابقة، أي مؤشرات على سيولة الحالة المرورية أو احتقانها في المسارات المقترحة، أو ما يفيد في الوقت نفسها بنجاح التجربة من عدمه، أو إن كانت هناك نيّة لمدّها من أجل دراسة الوضع على مدى زمني أطول، وهو الأمر الذي يخشاه أصحاب الأعمال التجارية في الشارع، الذي لا يعد فقط منفذًا بين محافظتين، وإنما متنفسًا لسكانهما بسبب ما يحتوي عليه من سبل مختلفة للترفيه والتسوق.
فعندما سألت "يسرية" ضابط المرور عن أسباب الإغلاق أخبرها أنه "سيستمر لخمس سنوات حتى الانتهاء من محطة المترو"، وهو الشبح الذي يُذكّر أصحاب المحال التجارية على ضفتي شارع الروضة، بما جرى في قطاع كبير من شارع 26 يوليو، الذي يربط وسط القاهرة بحي الزمالك، خلال تنفيذ أعمال الخط الثالث للمترو.
يضم الشارع عددًا من متاجر الملابس والأدوات المنزلية ومطاعم الوجبات السريعة والحلويات، بالإضافة إلى السينما وعدد كبير من المطاعم العائمة، التي ستعاني مع الإغلاق من أضرار اقتصادية بدأت تظهر، حسبما يرصد محمد حسنين، العامل بمحل شهير للمثلجات، الذي يؤكد لـ"صوت السلام" أن مبيعاته تضررت كثيرًا مع الإغلاق وانخفضت بنسبة 80% منذ بداية الأسبوع، ويخشى استمرار الوضع في الهبوط لدى الإغلاق الفعلي "الذي لا يعلم عنه أحد شيئًا".
لم تصدر محافظة القاهرة أو وزارة النقل أي بيانات عن موعد البدء في تنفيذ أعمال الخط الجديد من المترو، الذي يشير المنشور عنه فقط إلى أنه سيكون متاحًا أمام الجمهور في عام 2027.
وتواصلت “صوت السلام" مع أشرف محمد منصور، نائب محافظ القاهرة للمنطقة الجنوبية، أول من أمس الأحد، للوقوف على تفاصيل التجربة المرورية، لكنه تعلل بانشغاله بأحد الاجتماع، وطلب تأجيل الاتصال لظهر الإثنين، قبل أن يعود ويعتذر عن عدم التعليق لانشغاله باجتماع آخر، وكذلك تواصلت "صوت السلام" مع محمد هادي، المتحدث الرسمي لمترو الأنفاق، لسؤاله عن موعد البدء في تنفيذ أعمال محطة الفسطاط والإغلاق الفعلي للشارع لكنه رفض الإدلاء بأي تصريحات لأنها خارج نطاق اختصاصاته، ثم أحالنا إلى محمد عز، المستشار الإعلامي لوزارة النقل، الذي رفض بدوره التصريح قبل الرجوع أولًا إلى وزير النقل.
ووسط هذه الحالة من الضبابية وغياب المعلومات، تخشى يسرية من أن يحدث الإغلاق الفعلي قريبًا وبشكل مفاجئ فيؤثر على الكافيه الذي تعمل به، مما يدفع صاحب العمل للتخلي عن جزء من العمالة لمواجهة الخسائر المحتملة، تقول لـ"صوت السلام": "الطبيعي إن سكان الجيزة يروحوا لكافيهات الجيزة، لكن سكان مصر القديمة والمنيل اللي كان الشارع نقطة وصل بينهم، وبيوفر لهم مكان على النيل والقعدة فيه حلوة، يروحوا فين؟ كده الشارع هيتنسي والناس تبدأ تروح لأماكن ثانية، والزبون اللي ربيناه بقالنا سنين يختفي".
عندما غادر الطالب حاتم المركز الذي يتلقى فيه الدرس الخاص، إلى شارع الروضة، انزعج من الهدوء الذي خيم على الشارع الذي كان يضج قبل أيام قليلة بأشكال الحياة المختلفة، حتى أن بعض الأطفال صاروا يلعبون الكرة في عرض الطريق الذي سُدّ من الناحيتين بصدادات تحمل اسم شركة "أوراسكوم"، إحدى الشركات العاملة في تنفيذ الخط الرابع، غير أن ذلك الهدوء الذي أشعر حاتم بالوحشة، كان كل ما اعتادته آية صلاح، التي تسكن شارع المقياس وهو أحد الشوارع الداخلية في منيل الروضة، وفزعت لتحوله منذ صباح الجمعة الماضي، إلى ضجيج لا يتوقف ولا تستطيع الصمود أمامه هي وسكان الشوارع الجانبية التي صارت هي المسار البديل للشارع الرئيسي، تقول لـ"صوت السلام": "كل يوم بصحى على صوت الكلاكسات والزعيق في الشارع، ورغم إنهم يومين بس الحياة بقت صعبة، ياترى ايه اللي هيحصل لما يتقفل الشارع كذا سنة".
ربما يعود افتتاح الخط الرابع للمترو بالنفع على سكان القاهرة والجيزة بعد ثلاث سنوات من الآن، حيث سيصبح يسيرًا عليهم التنقل بين المحافظتين من أقصاهما إلى أقصاهما، إذ يتضمن الخط الجديد 39 محطة، وتضم مرحلته الأولى حسب موقع هيئة مترو الأنفاق،17 محطة تبدأ من الجيزة بحدائق الأشجار وحدائق الأهرام، ثم محطة النصر، ومحطة المتحف المصري الكبير وميدان الرماية، والأهرام والمريوطية والمطبعة، الطالبية ومدكور والمساحة، الجيزة المحطة التبادلية مع الخط الثاني، ثم محطة ميدان الجيزة ثم محطة الروضة، والملك الصالح التبادلية مع الخط الأول، وأخيرًا محطة الفسطاط، لكن يسرية ومحمد وآية الذين أثقل الأسبوع التجريبي حياتهم، لا يستطيعون التفكير فيما يحمله غد يجهلونه في ظل ما يواجهنه من يوم صار مشحونًا بالأرق.