يُقَسِم كثير من الأكاديميين عناصر تكوين القصة لبداية خُضناها في الحلقة الأولى مع مستوطنة "مونتيفيري"، وزمان ومكان حددناهم منذ القرن قبل الماضي مرورًا بانتداب بريطانيا لإدارة فلسطين، وصولًا لتقسيمها واحتلال أرضها.
وتحدثنا عن شخصيات هذا الصراع التاريخي وذروة أحداثه في الحلقة الثانية من قصة "المقاومة الفلسطينية"، ومدى شرعيتها.
عرضنا كل هذه العناصر في حلقتين سابقتين، إلا أن قصة المقاومة الفلسطينية التي أضفت القوانين والمعاهدات والمواثيق الدولية شرعية عليها، والاحتلال الذي وصفته نفس المؤسسات الدولية بالكيان المحتل، لا تزال بلا عنصر نهاية.
وقصة المقاومة لا تزال مفتوحة مثل جراح الفلسطينيين، ولذا خصصنا الحلقة الأخيرة؛ للبحث عن جدوى هذه القوانين والمعاهدات، التي طالما أبقت الاحتلال الإسرائيلي فوق القانون.
...
للحرب قواعد تُعرف في القانون الدولي الإنساني بـ"اتفاقيات جنيف" وهي مجموعة من أربع اتفاقيات دولية تمت الأولى عام 1864، وآخرها عام 1949، وتتناول حماية حقوق الإنسان الأساسية في حالة الحرب، وتحدد المباح والممنوع فعله في النزاعات المسلحة.
وتستهدف الاتفاقيات بشكل أساسي تقديم الحماية للمدنيين والحفاظ على بعض من الإنسانية في النزاعات المسلحة، وإنقاذ الأرواح، والتخفيف من المعاناة.
وتقول الموسوعة التفاعلية الفلسطينية التابعة لمؤسسة الدراسات الفلسطينية، إن الفترة بين عاميّ 1947 و1949 هي الأكثرَ حسمًا في التاريخ الفلسطيني الحديث، إذ شهدت بداية العمليات العسكرية والتطهير العرقي بعدما أحالت بريطانيا قضية فلسطين إلى الأمم المتحدة في أبريل 1947 التي قررت تقسيمها، وفي أعقاب ذلك شنت القوى الصهيونية حملة هجومية استولت فيها على مقدار من الأرض تجاوز خطوط التقسيم، ودمّرت قرى ومدّنًا فلسطينية بأكملها، وأفرغتها من سكانها الفلسطينيين الذين تحوّل معظمهم إلى لاجئين.
وعقب ذلك وافق الاحتلال الإسرائيلي بشكل علنيّ على التقسيم، فيما رفضته الدول العربية والهيئة العربية العليا التي كانت بمثابة القيادة الفلسطينية الفعلية، فاشتعل القتال بين العرب واليهود في فلسطين بعد تصويت الأمم المتحدة على التقسيم مباشرةً في 1948.
واستولت القوات الصهيونية المهاجمة على عدد من المدن الكبرى، مثل "يافا وحيفا وطبريا"، فضلًا عن مساحات واسعة من الدولة العربية المقترحة في قرار التقسيم، وخصوصًا في الجليل؛ ففرّ الفلسطينيون أمام زحفها بعشرات الآلاف لاجئين إلى دول الجوار عقب انتشار الأخبار بين السكان عن الفظائع والمجازر التي ترتكبها العصابات الصهيونية كتلك التي حصلت في "دير ياسين" إذ قتلت قوات الاحتلال شبه العسكرية أكثر من 100 قروي فلسطيني، وفقًا للموسوعة.
وجرّمت الجمعية العامة للأمم المتحدة الإبادة الجماعية في 9 ديسمبر 1948، ودخل القانون حيز التنفيذ في 12 يناير 1951، وفقاً للجنة الدولية للصليب الأحمر.
لكن ذلك لم يوقف مخططات احتلال المدن والقرى الفلسطينية وتهجير سكانها، ففي يوليو 1948 وقعت واحدة من أكبر المجازر التي حفِلت بها حرب فلسطين، في مدينتا "اللد والرملة"، وكان اللافت هو وقوع المجزرة على مرحلتين: "الأولى عند احتلال المدينة، والثانية خلال عملية الطرد الجماعي والتي تعتبر من أكبر عمليات التطهير العرقي التي نفّذها الاحتلال".
وتقع "اللد" في الجنوب الشرقي من مدينة يافا وفي الشمال الشرقي من مدينة الرملة وتميزت بوجود خط سكة حديدية ومحطة قطارات كانت تُعتبر أهم محطة بعد محطة "حيفا"، وقدّر عدد سكانها سنة 1946 بنحو 18,250 نسمة، وكانت حينها خالية من اليهود.
احتل الإسرائيليون القرى المحيطة باللد في الجبهتين الشمالية والغربية، بالإضافة إلى مطار اللد الدولي، وبهذا تمكنوا من الاتصال بقواتهم في المستعمرات المجاورة.
وفي عشية الهجوم على "اللد والرملة"، شنّت طائرات الاحتلال غارات مكثفة على البلدتين في أثناء تناول الأهالي طعام الإفطار في شهر رمضان، ما أدى إلى مقتل وجرح العشرات، واكتظت مستشفى المدينة بالجرحى، وفيما انخرط أطباء وممرضون وعمال آخرون في إسعاف الجرحى، عمل رجال المدينة على إقامة تحصينات وخطوط دفاعية ورفضوا فكرة الاستسلام.
وفي اليوم الأول من الهجوم بدأ الاحتلال في الوصول لـ "اللد" من الناحية الشرقية عند قرية دانيال، وصد المدافعون الهجوم بعد معركة عنيفة.
وعلى الرغم من الخسائر الكبيرة التي ألحقها المدافعون بالقوات المعادية، فإن عددهم القليل مكّن الاحتلال من شن هجوم جديد بدعم من المدرعات ودخلوا المدينة مساءً.
وفي اليوم الثاني للهجوم سيطر الاحتلال على المدينة، بعدما كانت جنود الاحتلال ترمي قنابل يدوية داخل المنازل بدعوى وجود قناصين فيها؛ وهو الأمر الذي جعل السكان المذعورين يخرجون ويحاولون الهرب فما كان من الاحتلال إلا أن أطلق النار عليهم.
وقال وقتها أحد المراسلين الذي شهدوا الأحداث، إن جثث الرجال والنساء والأطفال تراكمت في شوارع المدينة وبقيت في العراء تحت الشمس أكثر من 10 أيام، أمّا الذين احتموا في مسجد دهمش، فقد أطلق الاحتلال النار عليهم فقُتل العشرات منهم ويقدر أن مجموع القتلى داخل المدينة تجاوز 400 شخص.
ومذبحة "اللد" لم تقتصر على عمليات القتل العشوائي ومذبحة المسجد فقد طرد الاحتلال جميع السكان من مدينة "اللد" والبلدات المجاورة بما فيها "الرملة"، والبالغ عددهم 70 ألف، وأجبرهم على الخروج من المدينة خلال نصف ساعة وسلوك طرق وعرة للوصول إلى رام الله، ففقد المئات حياتهم في الطريق بسبب العطش والجفاف والتعب إذ كانت رحلة الخروج شديدة القسوة والهول، بحسب المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس.
وتوضح الموسوعة التفاعلية أنه بحلول عام 1949 كانت حدود التقسيم التي اقترحتها الأمم المتحدة قد أصبحت غير ذات صلة، فقوات الاحتلال سيطرت على 77 % من فلسطين في 1948 والتهمت فيها مساحات شاسعة مما كان يُفترض أن يصبح الدولة العربية الفلسطينية، أما النسبة المتبقية فكانت القوات المصرية تسيطر على غزة، فيما احتفظت القوات الأردنية والعراقية بالضفة الغربية وشرقيّ القدس.
ولا تجيز المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين معاقبة أي شخص على جريمة لم يرتكبها هو شخصيًا، وتحظر العقوبات الجماعية وكذلك تدابير الإرهاب والترهيب، كما تحظر الأعمال الانتقامية ضد الأشخاص المحميين وممتلكاتهم، كما خالفت أعمال الاحتلال الإسرائيلي المادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة التي نصت على حظر تدمير أي ممتلكات خاصة ثابتة أو منقولة تتعلق بأفراد أو جماعات أو بالدولة أو السلطات العامة.
وشهد عام 1956، ثلاث مجازر الأولى مذبحة كفر قاسم في شهر أكتوبر، والتي أسفرت عن استشهاد 49 فلسطيني مدنيًا، وفي شهر نوفمبر وقعت مجزرة خان يونس، وانتهت باستشهاد 250 فلسطيني مدنيًا، وخلال الشهر نفسه، استشهد 111 فلسطيني مدنيًا جراء مذبحة رفح، بحسب موقع الموسوعة التفاعلية الفلسطينية.
ووزعت في عام 1990 - وقبيل احتفال الاحتلال بعيد العرش اليهودي، جماعة يهودية متطرفة تسمى "أمناء جبل الهيكل" بيانًا على وسائل الاعلام، أعلنت عزمها تنظيم مسيرة إلى جبل الهيكل "كما يسمونه"، لوضع حجر الأساس لما يسمى بالهيكل الثالث داخل المسجد الأقصى، والتي تأتي فكرته حول اعتقاد يهودي بأن الهيكل موجود تحت المسجد، وقد تم تدمير الهيكل مرتين خلال التاريخ، لذلك فإنهم يقولون إن هذا الهيكل هو الثالث.
وفي مواجهة ذلك اعتكف آلاف المصلين داخل المسجد الأقصى وباحاته، وفور اقتحام المستوطنين اليهود المشاركين فى المسيرة للمسجد هب المعتكفون لمنعهم من تنفيذ مخططهم؛ إلا أن قوات الاحتلال الإسرائيلية تدخلت وأمطرت المُصلين بزخات من الرصاص، وحدثت مذبحة الأقصى الأولى والتي أسفرت عن استشهاد 21 فلسطينيًا وأصيب 150 بجروح مختلفة واعتقال 270 شخصًا، فيما تم إعاقة حركة سيارات الإسعاف وأصيب بعض الأطباء والممرضين أثناء تأدية واجبهم، ولم يتم إخلاء القتلى والجرحى إلا بعد 6 ساعات من بداية المذبحة.
واستمر الاحتلال في ممارساته الإجرامية، إذ نفذ في 1996 مذبحة الأقصى الثانية، في أعقاب اشتباكات عنيفة وقعت بين الفلسطينيين والشرطة الفلسطينية ضد جنود الاحتلال في كافه أرجاء فلسطين دفاعًا عن المسجد الأقصى المبارك، بعد فتح الاحتلال النفق المجاور للجدار الغربي للمسجد الأقصى، وأسفرت هذه المواجهات العنيفة عن استشهاد 51 فلسطينيًا وإصابة 300.
ولم يأت عام 2000 إلا ووقعت مذبحة الأقصى الثالثة، والتي جاءت إثر زيارة قام بها رئيس الوزراء الاحتلال الأسبق آرييل شارون للمسجد الأقصى، فتصدى له الفلسطينيون، فانتقم جنود الاحتلال في اليوم التالي أثناء صلاة الجمعة، عبر فتح النيران على رؤوس المصلين، وجرت مواجهات في ساحات الأقصى بين المصلين وجنود الاحتلال أسفرت عن مذبحة راح ضحيتها 250 فلسطينيًا بين شهيدٍ وجريح.
ويحمي القانون الإنساني الدولي مقدمي الرعاية الطبية ورجال الدين وعمال الإغاثة والدفاع المدني، ومقرات المستشفيات والمدارس والمدنيين، وفق بروتوكول إضافي لاتفاقيات جنيف تم اعتماده عام 1977 يحتوي على "معظم القواعد" المتعلقة بحماية المدنيين، وتنقسم المبادئ الأساسية فيه إلى مجموعتين من القواعد، تركز الأولى على احترام كرامة الإنسان وحياته والمعاملة الإنسانية، ويشمل ذلك حظر عمليات الإعدام والتعذيب، والثانية الإبادة الجماعية التي تعني أيًا من الأفعال المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية مثل قتل أعضاء من الجماعة وإلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة وإخضاع الجماعة عمدًا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا، وفرض تدابير تستهدف الحيلولة دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، نقل أطفال من الجماعة، عنوة إلى جماعة أخرى.
وتعاقب المادة الثالثة من القانون على جريمة الإبادة الجماعية، أو التآمر على ارتكابها أو التحريض المباشر والعلني على ارتكابها أو محاولة ارتكابها أو الاشتراك فيها.
وضرب الاحتلال في انتهاكاته عرض الحائط للقانون الدولي وقانون حقوق الإنسان وجميع الشرائع الدولية والاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وذلك دون وجود إجراءات لهذه الانتهاكات، بالنظر إلى محتوى اتفاقيات جنيف الدولية وخاصة الاتفاقية الخاصة بحماية السكان المدنيين.
وعلى مدار ما يزيد عن 49 يومًا منذ السابع من أكتوبر، واصل الاحتلال إجرامه الحالي، وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية، فقد بلغ عدد الضحايا من الفلسطينيين حتى كتابة هذه السطور ما يزيد على 16 ألف فلسطيني من سكان قطاع غزة، بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية التي تعاني بالفعل نتيجة تكرار قصف الاحتلال منذ سنوات، فيما أدت أيضًا الغارات الجوية للاحتلال إلى نزوح أغلب سكان القطاع الذين يبلغ تعدادهم 2.2 مليون نسمة.
وامتد القصف ليشمل قطع إمدادات المياه والكهرباء والوقود أيضًا، الأمر الذي أدى إلى إظلام تام للقطاع الذي كان يتمتع بالكهرباء لمدة 3 أو 4 ساعات فقط يوميًا، وخروج المنشآت الطبية والمستشفيات من الخدمة، بما أعجز الأطقم الطبية عن تقديم المساعدة لأكثر من 35 ألف مصاب.
ولم تكتفِ قوات الاحتلال بعمليات القتل والتجويع المتعمد ضد المدنيين العزل في غزة، بل تدفعهم منذ اليوم الأول للتصعيد للنزوح قسرًا من منازلهم وتفريغ القطاع من سكانه.
وبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "OCHA"، فقد بلغ عدد النازحين الفلسطينيين داخل غزة المكتظة بالسكان، ومن هجروا من منازلهم نتيجة تهدمها تقريبًا 1.5 مليون شخص، وقد ارتفع هذا العدد من 123,538 في 8 أكتوبر 2023 لاندلاع المواجهات، إلى مليون ونصف بحلول الرابع من نوفمبر.
وبحسب بيان من الهيئة العامة للاستعلامات، والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فقد بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين والعرب منذ النكبة عام 1948، نحو 100 ألف شهيد، فيما يشار إلى أن عام 2014 كان أكثر الأعوام دموية حيث سقط 2,240 شهيدًا منهم 2,181 استشهدوا خلال العدوان على قطاع غزة، وذلك قبيل عملية "طوفان الأقصى" في يوم السابع من أكتوبر 2023، حيث قتلت قوات الاحتلال ما يزيد على 16 ألف شخص، وفقًا لتصريحات مي الكيلة، وزيرة الصحة الفلسطينية.
وبلغ عدد الأسرى في سجون الاحتلال الاسرائيلي 4,500 أسيرًا نهاية العام 2020، منهم 140 أسيرًا من الأطفال، بالإضافة إلى 41 أسيرة من بينهن 12 أسيرة أمهات، أما عدد حالات الاعتقال فبلغت خلال العام 2020 حوالي 4,634 حالة، من بينهم 543 طفلًا و128 إمرأة.
كما تشير البيانات الى وجود 570 أسيرًا يقضون أحكامًا بالسجن المؤبد "مدى الحياة"، و650 معتقًلًا إداريًا، واعتقل الاحتلال ما يزيد على 700 أسير من المرضى وستة أسرى من النواب بالمجلس التشريعي، بالإضافة لوجود 25 أسيرًا اعتقلوا قبل اتفاق أوسلو عام 1993 وما زالوا يقبعون داخل سجون الاحتلال.
وتوضح البيانات أن عدد الشهداء من الأسرى بلغ 226 أسيرًا منذ عام 1967 بسبب التعذيب أو القتل العمد بعد الاعتقال أو الإهمال الطبي بحق الأسرى، كما استشهد 103 أسرى منذ عام 2000، وقد شهد العام 2007 أعلى نسبة لاستشهاد الأسرى داخل سجون الاحتلال حيث استشهد سبعة أسرى، خمسة منهم نتيجة الإهمال الطبي.