في قلب ورشته الصغيرة، حيث تنتشر التماثيل واللوحات في كل زاوية، يقف إنجلو رفعت وقد غمرت يداه بالطين الأسواني، يلامس خامته بصبرٍ وشغف، وكأن بينه وبين المادة حوارًا صامتًا لا يفهمه سواه. أصابعه تنساب فوق سطح الطين، تُنقّح التفاصيل، حتى يتحوّل بين يديه إلى فن ينبض بالحياة.
في اليوم العالمي للفن الذي يحتفي فيه العالم يوم 15 أبريل، تبرز موهبة إنجلو، ابن محافظة سوهاج، وأحد مدرسي "النور للمكفوفين" في قرية أولاد نصير بمحافظة سوهاج. ليس مجرد نحات موهوب، بل فنان يحمل في قلبه رسالة عميقة.
جعل من فنه وسيلة لتقريب الجمال من قلوب المكفوفين، حيث خلق لهم نافذة خاصة يطلّون منها على العالم، لا عبر البصر، بل عبر اللمس، حيث تتحسس أيديهم تفاصيل التماثيل، وتقرأ خطوط الإبداع كما تُقرأ الحروف.
بداية إنجلو
يمتلك إنجلو، 30 عامًا، ورشة لتعليم النحت والرسم للمكفوفين مجانًا، وهو الفن الذي أحبه منذ الصغر، حيث تعود جذور شغفه إلى سنوات طفولته، إذ نشأ في بيت تملؤه رائحة الألوان والفرشاة، كان والده فنانًا يرسم اللوحات الجدارية في الكنائس، واعتاد الصغير إنجلو أن يراقبه بانبهار.
أول من شجّعه على تنمية موهبته هو والده، فبدأ يتعلّم الرسم والنحت من خلال الممارسة ومراقبة الفنانين أثناء عملهم.
يقول إنجلو: "لم ألتحق بكلية الفنون، لكن ذلك لم يمنعني من إثبات نفسي، اجتهدت وطوّرت من مهاراتي، واستطعت أن أحصد المركز الثاني على مستوى الجمهورية في مهرجان الكرازة، والأول في مسابقة (إبداع 2) في الرسم، والثالث في (إبداع 5) في التصوير الزيتي، كما اختيرت إحدى لوحاتي ضمن أفضل خمسة أعمال فنية على مستوى الجمهورية، بالإضافة إلى حصولي على المركز الأول في مسابقة الأسر الطلابية".
تعليم المكفوفين
وظّف إنجلو رفعت موهبته الفنية في النحت لخدمة ذوي الإعاقة البصرية، لأن أن الجوائز لم تكن أعظم إنجازاته، بل قراره بتعليم المكفوفين الرسم والنحت، بدأ الأمر حين لاحظ غياب البرامج المخصصة لهم، وبدأ بتنظيم ورش عمل تتيح لهم فرصة "رؤية" الفن عبر اللمس، واضعًا أسسًا جديدة لتعليمهم.
لم تكن المهمة سهلة؛ إذ واجه عدة تحديات، يقول عنها: "ندرة الورش الفنية في صعيد مصر مقارنة بالمناطق الأخرى، وصعوبة توفير الأدوات والخامات المناسبة، لكنني تجاوزت هذه العقبات، وبدأت في جلب المواد من القاهرة بالتعاون مع المكتبات، وابتكرت طرقًا تعليمية تُساعد المكفوفين على التعبير الفني بلمساتهم الخاصة".
يضيف إنجلو: "استخدم خامات مختلفة مثل الطين، والجرانيت، والحجر الجيري، والطين الأسواني، وهو الأرخص سعرًا، إذ يبلغ الكيلو الواحد نحو 200 جنيه في القاهرة وأسوان".
وعن مراحل تنفيذ التمثال يوضح: "أبدأ بالنحت باستخدام الطين وأجعل المكفوفين يلمسون الخطوات، لكنه لا يُستخدم كخامة نهائية، بعد تشكيل المجسم، أعد قالبًا (أُصطنبة)، ثم يُصبّ التمثال في النهاية باستخدام المعادن وكل خطوة يستخدم المكفوفين اللمس".
يرى إنجلو أن النحت أكثر سهولة للمكفوفين من الرسم، إذ يعتمد على حاسة اللمس لفهم الأشكال والأبعاد، بينما يظل الرسم أكثر تعقيدًا لصعوبة تصور المساحات بصريًا. ومع ذلك، تمكّن من تعليمهم الرسم أيضًا.
لكن المشروع الأقرب إلى قلبه هو تعليم الأطفال المكفوفين النحت، واستطاع طلابه، الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و12 عامًا، نحت "بورتريهات" بأيديهم دون أن يبصروا ما يصنعونه، ليثبت إنجلو وفريقه أن الفن ليس حكرًا على المبصرين، بل هو إحساس ينبض من الداخل ويُترجم بالإبداع.
إنجازات أخرى
إلى جانب تعليم المكفوفين النحت، نظم إنجلو العديد من ورش العمل في الكنائس، والمتاحف، والجامعات، مستهدفًا الطلاب في جميع أنحاء سوهاج، وترك بصمته في العديد من الأماكن.
من بين إنجازاته، تنفيذ جدارية فرعونية ضخمة في جامعة سوهاج، وأخرى على كورنيش النيل بالتعاون مع مركز سيتي للإعاقات المختلفة، حيث جسدت تلك الأعمال أشخاصًا من ذوي الإعاقات البصرية والسمعية.
كما نفذ العديد من الأعمال الفنية التي تُحفظ في وزارة الشباب والرياضة، وحصد العديد من الجوائز تقديرًا لإبداعاته.
يرى إنجلو أن الفن وسيلة لإعادة تشكيل العالم ومنح الفرص لكل فرد للتعبير عن ذاته، بغض النظر عن التحديات التي قد يواجهها. من خلال ورشته، لم يقتصر على تعليم المكفوفين فنون النحت والرسم فقط، بل أتاح لهم نافذة جديدة لرؤية العالم بلمسهم، ومنحهم فرصة لتجربة ما لم يكن متاحًا لهم من قبل.