في منطقة مزدحمة بالمارة والمحلات التجارية في سوهاج بشارع 15، يقع محل يكاد لا يراه المارة لصغر مساحته، وعلى الرغم من بساطة المحل وأرففه وأدراجه المتهالكة، إلا أن المحل تفوح منه رائحة الفن والإبداع.
أمام المحل يجلس فتى عشريني يُطرِب آذان المارة بعزفه على آلة الجيتار، التي صنعها له عم رأفت في ورشته التي اشتهرت باسم "ورشة الفنان".
يقول رأفت خلف، لـ"أهل سوهاج": “كنت أعمل صانع أنتيكات، وأعشق تطويع الخشب والنحت، أراني أخصائي أخشاب، ثم اتجهت إلى العمل في مجال صناعة الآلات الموسيقية في سن العشرين، حين طلب مني ابني ماريو جيتارًا للتعلم عليه".
لم يفكر كثيرًا، وقرر صناعة الجيتار بيديه، وحين نجح كان الأمر بمثابة انطلاقته الحقيقية في صناعة آلات الموسيقى، التي زاد اهتمامه بها يومًا فالآخر حتى صار علامة مميزة لشارع 15.
واستطاع الآن رأفت صناعة ثلاثين آلة موسيقية أبرزها: “القانون، الكمانجة، ساز، السمسمية، الربابة، العود، الناي، المزمار البلدي، الدودوك الأرمني، الدف الفارسي، الرق، الدف، الكولة، الاكولوليلي، السنتور، التشيلو".
يقول: “أعتمد على خامات خشب الزان والمهوجيني، فيما عدا مفاتيح الجيتار والأوتار أشتريها".
ويسكن عم رأفت في منطقة الشرق، ويذهب إلى منطقة شارع 15 يوميًا منذ الصباح ليفتح ورشته حتى تغيب الشمس، ويفعل ذلك منذ بلوغه سن الستين وخروجه على المعاش بعد وظيفة أمين مخزن في مديرية الصحة بسوهاج".
ولم يتعلم الرجل صناعة الآلات الموسيقية من أحد ما، بل بنفسه، إذ درس وتعلم تكوين الآلة وشكلها وتقنيتها حتى صار خبيرًا فيها، يُمسِك قطعة الخشب فتلين بين يديه، لكنه رغم ذلك لا يعرف العزف على الآلات، وهذا لم يقلل من عزيمته وإصراره على تصنيعها.
ومكث رأفت ثلاثة شهور لصناعة آلة القانون، يقول: “تحتوي على عدد كبير من الأوتار، على عكس الناي والكولة اللذان لا يستغرقان مني كل هذا الوقت لتصنيعهما".
ورغم شغفه الذي لم يفقده في المهنة، فإن الرجل يصف نفسه بطبيب شاطر في بلد مفيهاش عيانين، يقول: “لا إقبال على شراء الآلات الموسيقية في سوهاج؛ بسبب قلة العازفين، كما أثرت فترة وباء كورونا على حركة البيع".
ويُرجِع رأفت أيضًا قلة البيع للحالة المادية الصعبة التي يعيشها المواطنون الآن.
ورغم أهمية مهنته كحارس وصانع للفن، فإن أبناء سوهاج لا يعطونه التقدير الذي يستحقه، يضيف: “لا أحد يعي أهمية الآلات الموسيقية، وسوهاج تفتقر إلى الوعي أو الاهتمام بالفن، وما يثير دهشتي أن غالبية الزبائن الذين يترددون على الورشة لا يعلمون أصلًا أسماء الآلات، وقد يسخرون منها ويسألوني بكام البتاعة دي".
ولا يستطيع رأفت فهم سلوك الزبائن، ممن يخوضون معه معارك للفصال في سعر آلة موسيقية معينة.
ولازمت عقدة الخواجة صانع الآلات الموسيقية لسنوات، فالزبائن لا يشترون منه لعلمهم أنه مصري مثلهم، أما الباقي من الأجانب الذين احترفوا مهنته فلا يعانون قلة البيع مثله، يقول: “بعض العازفين اختبروا آلاتي وقالوا إنها تفوقت على الآلات الموسيقية الإيطالية والألمانية".
ويستطيع رأفت معرفة اتجاهات جمهوره، فالفتاة تهتم بشراء الكمانجة، والشاب بالجيتار، وكبير السن يجذبه العود، وهي اختيارات يراها الرجل تقليدية، فلا أحد يهتم بشراء آلة نادرة.
ويواجه الرجل تحديات كثيرة في صناعة آلاته مثل توافر المعدات والخامات، لذا يصنعها بنفسه، ومنها عربات النحاس لآلة القانون.
ويستخدم رأفت تقنية إعادة تدوير المخلفات لاستخدامها كبدائل لصناعة الآلات الموسيقية، مثل "علب الكانز، مغرفة الطبخ، سربتنية الثلاجة، أسلاك الدراجات"، كما يهتم في عمله بصناعة آلة موسيقية خفيفة الوزن قوية الصوت، يقول: “أصنع آلة تنطق حروف أي خلل سيظهر".
ورغم مهاراته فإن رأفت لم يصل بعد إلى موسوعة جينيس للأرقام القياسية يقول: “أكثر شخص وصل إلى الموسوعة صنع 12 آلة فقط، وأنا صنعت ثلاثين آلة".
وإصرار رأفت على استكمال العمل في هذه المهنة، لا يقابله أية دعم من المحيطين، بل انتقدته أسرته، التي ترى أنه يقضي وقتًا طويلًا ويبذل جهدًا كبيرًا دون جدوى، يوضح: “قد يمر أكثر من ثلاثة شهور دون بيع آلة موسيقية واحدة، وقد أحصل في يوم واحد على 25 جنيه، أو أبيع بالخسارة، فسعر الناي مثلًا يتراوح بين 50 إلى 75 جنيه".
ولهذا يعتمد الرجل الستيني على المعاش الذي يتقاضاه من الدولة، لكن حبه لصناعة الآلات الموسيقية لم يمنعه عن العمل فيها، يقول: “أنا كالمتوصف والراهب.. وأتمنى أن تستغل الدولة موهبتي وتستثمرها في إنشاء معهد لتعليم صناعة الآلات الموسيقية، فالأجنبي حين يصنع الكمانجة يقوم بتكوين الخشب فقط، وأنا أصنع الكمانجة والمفاتيح والدجانة والمشط والفرسة، وهي تمثل غالبية مكونات آلة الكمان".