المجد للفرص الضائعة، الرغبة فى فقد الأشياء، الشعور بالتحرر والطيران مرة أخرى بشكل أخف، المجد للفقد، ولطبيعة الحياة الفانية حيث الدائم فيها هو التغيير، المجد لقطعة الذهب التي فقدتها في بحر الإسكندرية بعد ساعة من السباحة في البحر بخفة، لأجل السلالم التي رقصت عليها دون استحياء دون رغبة فى الصعود أو الهبوط، للفرص الثمينة التي أردت أن أضيعها، وضيعتها بكل شجاعة دون ركض وراء الأحلام التي تتحول إلى سراب، لأجل الرحلة التي اهتم بمتعتها لا الوصول الذي كان قلقي الليلي الدائم.
"الخوف من فوات أمر ما أو حدث" أو ما يعرف بـ"FOMO" "فومو" فى علم النفس، وهو الخوف من فقدان الفرص أو الأحداث والرغبة الشديدة فى السيطرة على الواقع ومعرفة كل أحداث اليوم؛ بهدف عدم فقد أي حدث يمر أمام الشخص.
كجيل نشأ في أحضان مواقع التواصل الاجتماعي نشعر بالفومو يجري في عروقنا، طوال الوقت يوجد أحداث نخاف أن تفوتنا، في الصيف يوجد أيام الساحل التي يغرقنا أمواجه على "الانستجرام"، وفي الشتاء يوجد ليالي الشتاء الحزينة التى يلزمها فنجان قهوة وقطع الـ"كوكيز" بمبلغ وقدره، وفي رمضان يوجد لياليه التي تنتشر فيها صور "انستجرامية" ملونة بزينة رمضان.
عشت لسنوات أشعر بالفشل لأن أمور عديدة تفوتني لكنها ليست أمور عادية؛ بل هي السعادة التي قالت لي الحياة أنها توجد في هذه الأمور فقط، فالسعادة بالنسبة لجيلي هي صور "الانستجرام" التي تحتاج إلى أجر شهر كامل حتى تلتقطها.
أشعر دومًا أنني في سباق زمني ما، كأن هناك موعد نهائي لتسليم السعادة يقف بسيف على رقبتي، سأموت إذا لم أسلم السعادة في صورة أنشرها على منصة "انستجرام".. لكن الحقيقة هل هذه هي السعادة والغاية من الحياة؟
التغلب على "الفومو" أمر ليس سهلًا في هذا الزمن؛ فكلما زاد حزني كلما زاد قلقي، في الأيام الروتينية لديّ مساحة دون ضغط حتى أوقف هذا القلق، وأقول لعقلي لن يفوتك شيء أبدًا، وأذكر نفسي بأن هذا الكوكب لا يخلو من الأحداث منها دوران الأرض حول الشمس، العديد من الأحداث في القارات الأخرى قد تفوتني، لا بأس..أخذ شهيق وزفير وأعود إلى مجموعاتي التي أدور في فلكها.
أدركت هذا القلق منذ جائحة كورونا؛ حين توقف أهم حدث في حياتي وهو الثانوية العامة، توقفت الدروس والنوم والقلق، فجأة ساد السكون حياتي.. أهذه هي الثانوية العامة التى أخبرني الجميع أنها مقياس الحياة؟.. كنت غارقة وسط الكتب في غرفتي لمدة خمسة شهور.. أدركت فيهم أنه لن يفوتني شيء، لذا استقبلت نتيجة الثانوية ثم التنسيق بصدر رحب، حظي أن سنتي بها وباء لا يزور العالم إلا كل قرن مرة، تفهمت أن للحياة حسابات أخرى، وأنه لا يمكنني السيطرة على كل شيء.
فى فيلم "اللمبي" كتب لنا المؤلف أحمد عبدالله جملة حوارية عظيمة على لسان شخصية "فرنسا" والدة اللمبي: "ربنا نجدها نوسة"؛ لتكون جملة فلسفية وسط حوار في فيلم كوميدي، جملة أخذها كفلسفة للحياة، وأحاول البحث عن نجاة "نوسة"، أطمح في حياة سريعة وصعبة، أيام أكون نوسة، وأيام أتمني أن أكون هي.
النجاة من هذه الحياة السريعة والسعادة المزيفة هي أمل قد يموت بداخلي أحيانًا بسبب الضغط، وقد ينمو بضحكة طفل لي في المترو، لأكتشف معه أن هذه هي سعادتي، أتمني النجاة لي ولكل أبناء جيلي، وأن يرقصوا على السلالم دون خوف.