كل يوم تُلاحقني فيديوهات هدم "مباني" في الأحياء كما الكوابيس، وأحيانًا تصيبني بنوبات هلع، أخاف من انتزاع جذوري في منطقة دار السلام، وانتهاء مجتمعي أو حدوث تغيرات تُحوله إلى "مسخ" لا أعرفه ولا يعرفني.
أشاهد مجتمعي كمسرحية مُتناغمة، أراه وأنا أشتري حبات "الطعمية" وُسط زحام عربة الفول، وصوت ارتطام "الكَبّشة" في "قِدرة الفول"، ثم دخول بائع "العِيش المِكَسر" بصوته المعتاد، وظهور بائعة الملوخية الطازجة الآتية من إحدى القرى بالقُرب من حلوان لتبيع محصولها وتوفر المال لأولادها الذين تعولهم بعد موت زوجها، وبين كل ذلك أسمع صوت ماكينة التنجيد بالورشة المُقابلة لمطعم، كل هذا يُشعرني بتميز مجتمعي، كأنه محمية طبيعية تحتاج للحفاظ عليها، أُطلق عليه "محمية مجتمعية".
أشعر بالأمان داخل هذا المجتمع، لأن دار السلام لا تنام، فالشوارع دائمًا مضاءة وبها بشر، البساطة تغلب طبيعة مجتمعي، فمثلًا وجبة العشاء أشتريها من أطيب يد تصنع مخبوزات بفُرن في المنطقة، بينما في الخلفية ينطلق صوت أم كلثوم في أغنية "أمل حياتي"، أفعل كل ذلك مكتفية بارتداء ملابس المنزل فوقها الحجاب فقط، داخل هذا النطاق الجغرافي أتجرد من كل المثالية التي تفرضها القاهرة الجديدة التي تُشيد على أنقاض مجتمعات أكثر جمالًا.
القاهرة تدريجيًا تتحول إلى مدينة مُنظمة جدًا، مبانيها متشابهة، أسير فيها فأشعر أنني آلة، لا أتفاعل مع المباني ولا أعطيها من روحي، بعكس مباني دار السلام غير المتناقسة، والتي بها روح وحياة أكثر من هذه المدن الحديثة، أكثر ما أشاهده مُتعة في منطقتي "الخناقات" بين الجيران حين تقفز دواجنهم داخل السطح الخاص بنا، وما يتبعه من شكل غير منظم للمنزل بسبب "عشش" الدواجن والحمام.
"عشوائيات" هذا ما يُطلق على دار السلام والمناطق المُشابهة، شوارعها ضيقة ومبانيها غير منظمة، فمثلًا غُرفتي لا تدخلها الشمس، لكنني أراها أفضل من غُرفة فى علبة أسمنتية تسمى "كومبوند"، الشتاء في الحي دافئ، لاقتراب المنازل وضيق الشوارع، لكن ذلك لا يمنع أن الطبيعي أن يتم إصلاح هذه الشوارع لصرف مياه الأمطار وتطوير البنية التحتية الخاصة بالحي، دون تنفيذ أعمال إزالة وهدم والتي يُطلق عليها تطوير، لأن التطوير لا يعني تمزيق مجتمع خاص.
هذا التمزيق طال الأموات قبل الأحياء، إذ تعرضت جذوري للانتزاع، عبر هدم مقابر أسرتي في السيدة نفيسة، حدث هذا قبل عيد الأضحي، بينما عقلي لم يفهم بعد.. كيف سنأخذ كفن جدي وجدتي؟ لننقلهم إلى مقابر أخرى في منطقة التجمع الخامس، كيف لزيارة المقابر المعتادة كل عيد أن تتحول إلى فيلم رعب؟.. وأن أري كفنهم كما كنت أراه فى الأفلام، وبطني تؤلمني بسبب موت البطل الذي كنت لا اتمناه، وأظل متأثرة بهذه المشهد لأسبوع من الحزن.
يومًا ما سأحكي لأبنائي وأحفادي – وهم ليس من المتوقع وجودهم بسبب هذه الأزمات - عن بناء مدينة جديدة على أنقاض مجتمعات كانت تحيا بطبيعة خاصة لن يروها إلا فى الصور، سأحدثهم عن شعوري بالخوف والهلع من "فيديوهات" الهدم، واختياري لخاصية "غير مهتمة بهذا الفيديو".
"أمل حياتي.. يا حب غالي.. مينتهيش.. يا أحلى غنوة" هكذا تغني أم كلثوم التي نشأت في مجتمع خاص، موسيقاها تُميز مجتمعي وتوجد في كل المقاهي والمحلات، صوتها الدافئ يؤنس العاملين في الحرف، وأنا مثل "الست" أمل حياتي أن أعيش وأموت في مجتمعي دون الانتزاع من جذوري.