التعليم الفني بين الوصم والفرص

تصميم_ محمد صلاح

كتب/ت جنة الله أشرف عطية
2025-03-11 10:29:05

على أطراف قرية نائية، حيث تتسرب الأحلام من بين أصابع الأرض المتشققة كما يتسرب الماء من كفٍ مفتوحة، جلس أحمد يواجه أصعب قرار في حياته، لم يكن قراره مرتبطًا بقدراته أو طموحاته، بل كان قرارًا مخافة كلمات الناس، تلك التي تُشبه شباكًا خفية تمسك بالأرواح قبل أن تحلّق.

هل قُدِّر للأحلام في هذا المجتمع أن تُوأد في مهدها؟ هل كُتب على أحمد ومئات أمثاله، أن يعيشوا في ظلال أحكام الآخرين، بدلاً من أن يسيروا تحت شمس طموحاتهم؟

كان أحمد منذ نعومة أظافره يحمل موهبة فطرية تُثير الإعجاب. يده الصغيرة قادرة على تحويل الخردة إلى آلات تعمل بإتقان. "هذا الفتى سيكون شيئًا عظيمًا".. هذه الكلمات رددها أحد الجيران ذات يوم عندما رأى أحمد يُعيد الحياه لمحرك جرار معطّل بلمسات بسيطة.

ولكن مع مرور الأيام كبر أحمد وأبدى رغبته في الالتحاق بالمدرسة الفنية الصناعية، تغيّرت نظرات من حوله، كانت من ضمنهم معلمته التي قالت باستهزاء عندما علمت برغبة أحمد "التعليم الفني؟ إنه خيار لمن لا يجد مكانًا في التعليم الحقيقي".

كان وقع الكلمات أثقل من أن يتحمله قلب شاب يافع، فاستسلم أحمد لنظرة المجتمع والتحق بالتعليم العام، ذات الفصول المزدحمة، حيث لا مجال للإبداع ولا مساحة للتميز العملي، خفُت بريق أحلامه شيئًا فشيئًا، حتى تلاشت تمامًا.

قصة أحمد ليست إلا مرآة لواقع يعاني منه آلاف الشباب في مصر، فوفقًا لتقارير صادرة عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء المصري ووزارة التربية والتعليم والتعليم الفني، كانت نسبة الطلاب المتفوقين الملتحقين بالتعليم الفني 4% فقط عام 2014، مع خطط لرفعها إلى 20% بحلول عام 2030، مما يعكس جهودًا لتعزيز مكانة هذا النوع من التعليم.

ورغم ذلك، لا تزال الصورة الذهنية السلبية تؤثر على اختيارات العديد من الأسر، فمن ناحية أخرى، يُظهر سوق العمل حاجة متزايدة إلى خريجي التعليم الفني، حيث تهدف الاستراتيجية الوطنية لإصلاح التعليم الفني إلى زيادة نسبة خريجيه الذين يعملون في مجال تخصصاتهم من 30% عام 2014 إلى 80% بحلول 2030، ما يؤكد أهمية هذا القطاع في دعم الاقتصاد المصري.

إن هذه المفارقة تكشف عن أزمة قيم مجتمعية، قبل أن تكون أزمة في منظومة التعليم، ففي الوقت الذي تعتمد فيه دول مثل ألمانيا واليابان على التعليم المهني كركيزة أساسية للنمو الاقتصادي، لا يزال يُنظر إليه في مجتمعنا كخيار "الفرصة الأخيرة"، وكأن العمل المهني وصمة عار.

إن الوصمة الاجتماعية التي تُلاحق التعليم الفني ليست إلا انعكاسًا لنظرة سطحية لا تُدرك جوهر الأمور، "فكم من مواهب دُفنت تحت وطأة هذه النظرة القاصرة؟ وكم من فرص ذهبية أُهدرت لأننا نقيّم الأشياء بمعايير مظهرية؟".

التعليم الفني ليس ملاذًا للضعفاء، بل هو العمود الفقري للاقتصاد الحديث، ففي ألمانيا، يُعتبر خريجو التعليم الفني العمود الفقري للصناعات الكبرى، وفي اليابان يُسهمون في تعزيز الابتكار التقني بشكل مذهل.

ماذا لو أعطينا التعليم الفني قيمته الحقيقية؟ ماذا لو قمنا بتمكين طلابه بدلًا من تهميشهم؟ ماذا لو استثمرنا في هؤلاء الشباب الذين يمتلكون مهارات لا تُقدّر بثمن؟

قصة أحمد ليست مجرد حكاية شخصية، بل هي شهادة على واقع يحتاج إلى تغيير جذري، علينا أن نقف أمام أنفسنا ونسألها "كم من الأحلام أجهضنا؟ وكم من الإمكانيات دفناها تحت ركام الجهل؟". فمستقبل مجتمعنا لا يُبنى بالكلمات الجوفاء، بل بالأفعال التي تُعيد لكل حلم حقه في الوجود، ولكل موهبة مكانها تحت الشمس.