من النظام إلى الفوضى، هكذا أشاهد حياتي بعد تخرجي في الجامعة. حلم التخرج الذي راودني طوال فترة دراستي في سبيل الهروب من الواجبات، واعتقادًا مني بأن سوق العمل مكان وردي جدًا.
لم أكن أعرف أني سأدخل في دائرة صراعات لا تنتهي، وشعور دائم بالذنب يمر كل ساعة مضت دون معرفة أو خبرة تفيدني لسوق العمل الشاسع الذي راح يُلوّح بي من مكان إلى آخر، وأبحث عن نفسي فيه.
من أين البداية؟.. سؤال يُراودنا جميعًا، منذ متى نبدأ في جمع خبراتنا؟ وهل العمل المتاح في إحدى محال بيع الملابس سيجعلني أجمع خبرات لمجال المحاسبة؟ لأجد وظيفة أحلامي بعد ذلك! حتى العمل في محل لبيع الملابس سيكلفني وقتًا يستغرق 12 ساعة عمل، ومقابل مادي استهلك نصفه في وجبة الإفطار والمواصلات للوصول إلى مكان العمل.
قررتُ التمرد وعدم الاستسلام، وبحثت عن عمل بالشركات، بالفعل وجدتُ وظيفة متاحة، فقدّمت سيرتي الذاتية لإدارة التوظيف، قبلوني على الفور، وخلال المقابلة تحدد الراتب بمبلغ لا يتجاوز الـ2000 جنيهًا.
أصابني الذهول! تخيّلت راتبي يضيع في الإنفاق على المواصلات ووجبات الإفطار، وطبعًا هذه الشركات لا تقبل أن ترتدي قميص وبنطلون عادي (كاجوال)، فهي تُلزم العاملين يوميًا بارتداء بدلة (فورمال) تُساوي ثلاث أرباع راتبك على الأقل، مع عدد ساعات عمل تصل إلى ثماني ساعات يوميًا.
هذا مثالي بالنسبة لي، ولكن هل يجب أن أقبل معدل راتب بهذا الشكل؟
أنا ضد استغلال الأشخاص بتحديد رواتب قليلة لا تكفي احتياجات الحياة العادية، ورغم ذلك قررت تجربة العمل، وذهبت في اليوم الأول، لكن بدأت أشعر بمدى الوقت المُهدر، فهناك ساعة ونصف تضيع في الطريق بسبب زحام الشارع، حتى أنني اضطر إلى المشي لمسافة طويلة لأن حافلات هيئة النقل العام التابعة لمحافظة القاهرة لا يمكنها دخول الشارع مقر عملي.
لا أُجزم أنني لو كنت أذهب إلى هذا المكان تطوعًا، كنت سأحب الطريق ويوم العمل والبدلة والشركة.
الجدير بالذكر أن هذا حال العديد من الشباب، إذ يبلغ تعداد الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 -29 سنة، حوالي 21,1 مليون نسمة بنسبة %19.9 من إجمالي السكان، وذلك بحسب التعداد الرسمي للسكان من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لسنة 2024، من بينهم %51.9 ذكور، %48.1 إناث، فيما يبلغ عدد الخريجين بحسب إحصائية لسنة 2022 من الجامعات الحكومية والخاصة 543.6 ألف خريج بنسبة %43.1 الذكور، %56.9 الإناث، وطبقًا لبيانات بحث القوى العاملة لعام 2023، بلغت نسبة مساهمة الشباب من 18-29 في قوة العمل 39.9%، من بينهم 81.7% ذكور و18.3% إناث من إجمالي قوة العمل، من بينهم 24.6% خريجي تعليم عالي.
وبحسب إحصائية نُشرت في الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لسنة 2023، يبلغ معدل البطالة بين الشباب 16.4%، من بينهم 10.9% ذكور و41.1% إناث، وبحسب وزارة العمل المصرية يبلغ الحد الأدنى للأجور 6000 جنيهًا في الشهر.
لماذا لم يُخبرنا من يسبقونا في العمر بصعوبة الحياة بعد التخرج؟
أتذكر عندما كنا نجتمع كل عيد كعائلة، ويتحدث كبار العائلة عن وظائفهم وكيف حصلوا عليها كان الوضع مختلف عن الوضع الحالي، كان يعمل الموظف بشهادة الدبلوم بمختلف أنواعه، بدون تحصيل شهادة جامعية، ولا حتى تراكم 10 سنوات من الخبرة من المريخ، وكان يعود إلي منزله في تمام الثانية ظهرًا، حاملًا البطيخة في يده، وإسقاط البطيخ هنا رائع على مُوظفي هذه الأيام.
لم يكن لديهم استراتيجية "المحيط الأزرق" التي تعني بالإنجليزية: (Blue Ocean)، وهناك مسمى آخر (Red Ocean) أي المحيط الأحمر؛ هما مفهومان نُشرا في كتاب"Blue Ocean Strategy" للمؤلفين "تشان كيم" و"رينيه موبورن"، يتحدثان عن المنافسة الشديدة في سوق العمل، وبحسب المفهومين فإن العامل سيدخل دائرة المحيط الأزرق إذا كان متميزًا في خبراته والعكس في المحيط الأحمر، ومع التطور أصبح العمل يُشترط أن تكون خريج جامعي تمتلك خبرة منذ ولادتك، لم أكن أتخيل أن التضخم قد طال الوظائف أيضًا.
سأستعين بأحد الأمثال الشعبية المعبرة عن الوضع "اللي اتلسع من الشوربة يُنفخ في الزبادي"، لا أعرف كيف سيبدأ أطفالي في التعلم لمواجهة صراع الـ "Blue Ocean"، سأعمل على تدريب ابني في أول يوم دراسي في الصف الأول له تحديد ما يُحب أن يصبح عليه بعد خمس سنوات؟ وأن يتعلم برامج الكمبيوتر وكتابة التقارير وتحليل البيانات حتى يكون مهيأ لدخول سوق العمل بعد التخرج ويدخل المحيط الأزرق في سلام.