منذ كنت طفلة صغيرة تصحبني أمي معها في رحلة السوق، كنت أرى النساء يكثرن عن الرجال لدرجة أني كنت أشعر أن كل الأسواق هي عالم النساء، منهن البائعات الفلاحات اللواتي ينزلن السوق مرتين أسبوعيًا لبيع منتجات الريف ذات المذاق الطيب الممزوج برائحة تشعرك بأنها تملأ البيت بركة.
ليست منتجاتهن المختلفة عنا فقط، إنما الملامح، والملابس، والحكايات، فبعد أن كبرت قليلاً أصبحت أسمع حكاياتهن بوضوح أكثر، مثل "أم محمد" التي لا أعرف اسمها الحقيقي، لكني أعرف من هي، فقد هجرها زوجها وتزوج بأخرى وقرر التخلي عن نفقتها وأولادها فبدأت العمل لتتكفل برعاية أطفالها، أعرف أن الحياة أخذت منها أشياء كثيرة، لكن أعطتها قوة تطل من عينيها وتملأ قلبي بالإيمان بنفسي، وأنا أعلم أنه يوجد أكثر منها لديهن حكايات تشبها، مليئة بالقوة والاستقلال.
كبرت قليلاً وأصبحت أهوي السينما والمسرح، وأمر بالسوق يوميًا في طريقي للجامعة، انظر لحكايات البائعات ومعاناتهن، على أنها مصدرًا لا ينضب لأفلام ومسرحيات قوية.
وفي ٢٠٢١، عندما عرض " فيلم ريش" كأول فيلم مصري، يفوز بالجائزة الكبرى لأسبوع النقاد في مهرجان "كان"، وعرفت أن بطلة الفيلم دميانة نصار، ليست ممثلة محترفة وإنما تهوى التمثيل بمسرح قريتها بالمنيا، وأشاهد مقابلة تلفزيونية لها، وأنبهر بشخصيتها..
إنها تشبه "أم محمد" كثيرًا والسيدات الآتي أراهن كل يوم في السوق، تختلف بينهن الملامح ولكن نفس الملابس، وآثار أشعة الشمس التي تزين وجوهن، نفس العيون المليئة بالشغف بالحياة بالرغم من صعوبتها.
تتوالى الجوائز التي يحصدها الفيلم، وأزداد فخرًا لا أعلم سره، حتى أدركت أن الفيلم يلمسني، ويخص جزء مهم مؤثر في حياتي، بحكايات النساء المتعبات القويات في السوق.
لم أشاهد فيلم "ريش" حتى الآن، إلا أنه بالتأكيد ستظل مشاعري تجاه دميانة وأم محمد، وكل من تشبههن من النساء القويات والمكافحات في كل الأسواق والأماكن، هو الفخر والحب.