قبل 15 ابريل الماضي، كانت الحياة في وادي كركر- القرية التي تبعد 25 كيلومترًا- عن مركز مدينة أسوان- هادئة، فالقرية التي أُعِدَّتْ تعويضًا للنوبيين من متضرري التهجير بعد بناء السد العالي لم تسكن جميع منازلها حتى الآن، بينما تتوسط حركة التنقل اليومية للسيارات والحافلات بين مصر والسودان.
هدوء اختلف تمامًا منذ هذا التاريخ عقب بدء الاشتباكات في السودان بين قوات الجيش والدعم السريع، تحولت معه القرية إلى "خلية نحل"، بادرت لفتح أبواب منازلها لاستضافة الأسر السودانية الوافدة إلى مصر هربًا من الاشتباكات، فضلًا عمن يفِد إليها على مدار الساعة المتطوعين من المبادرات المختلفة في حركة عمل مستمرة تقدم المساعدات الغذائية والطبية وأية احتياجات أخرى بمساعدة أهالي القرية أنفسهم.
"في الأسبوع الأخير من شهر رمضان وجدنا حركة غير عادية لتدافع السودانيين إلى موقف كركر لم نشهدها من قبل"، هكذا يصف أحمد عبدالحميد، مدير جمعية تنمية المجتمع بقرية وادي كركر، لـ"عين الأسواني"، التي زارت القرية لترصد ما يحدث فيها الآن، وما شهدته من تغيرات، بعد الأزمة التي حدثت في السودان.
يضيف: "في البداية كان المتطوعين يقوموا بتوزيع المياه والعصائر على القادمين كتحية ترحيب لهم، وكان هؤلاء في تلك الفترة أصحاب الطبقة الاجتماعية المرتفعة قليلًا، لأنهم كانوا يلجأون إلينا لمساعدتهم في حجز فنادق بمدينة أسوان للإقامة، أو طريقة للسفر مباشرة للقاهرة".
ولكن بعد عيد الفطر، تغير المشهد وفقًا لعبدالحميد، فقد ظهرت حركة تنقل من عائلات سودانية أقل قدرة على توفير التكلفة الاقتصادية لهذا الانتقال، وبدأت تتردد على أسماعنا مقولات مثل: "احنا مش معانا حاجة نروح بيها أسوان أوالقاهرة"، فبحثنا تدبير لهم إقامة داخل القرية.
لا يسكن القرية سوى 500 إلى 600 منزل فقط من بين 2400 منزل فيها، لذا كانت الخطوة الأولى للجمعية التي يديرها عبدالحميد هي التواصل مع أصحاب المنازل المغلقة المستقرين خارج أسوان للاستعانة بمنازلهم في تسكين العائلات الوافدة سواء مجانًا أو بإيجار لحين تهدئة الأوضاع، بينما ساهم سكان القرية في توفير أَسِرَّة وثلاجات للمنازل حتى تكون مؤهلة لهذه الاستضافة.
لم يبدأ التسكين في القرية إلا عام 2011، لذا فالخدمات فيها غير قادرة على استيعاب كل هذا الضغط، يعلق: "هناك مبادرات وفرت وجبات، كما تم عمل مطبخ للوجبات الساخنة ساهم ديوان محافظة أسوان فيه بتوفير المواد الغذائية، ومنذ الثامن من مايو وحتى الآن نوفر 50 وجبة في اليوم، والعدد يزيد يوميًا مع توافد الأسر إلى القرية".
فعلى سبيل المثال؛ حصة مخبز القرية لم تكفِ العدد القادم للأسر، لذا رفعتها المحافظة بواقع 1000 رغيف، أما الوحدة الصحية فكانت تخلو من طبيب مقيم، لذا وفرت وزارة الصحة طبيب، هكذا يواصل عبدالحميد حديثه.
ويضيف: "حتى الآن الوضع مستقر وقادرين على احتواء الموقف، ولا نعاني من عجز، لكن مستقبلًا لا نضمن الموقف، لذلك ولأول مرة وصل إلى قريتنا منظمات عديدة مثل "منظمة الأمم المتحدة واليونيسيف"، وحضر مسئولو المحافظة لمناقشتهم في معرفة وضع القرية ومدنا بالمساعدات، والتي توفر احتياجات المقيمين هذه الفترة.
تحت مظلة في موقف كركر الدولي، جلس منصور جمعة وأحمد أبوبكر، يحتميان من حرارة الشمس، بعد ساعات من مشاركتهما في أنشطة مختلفة لاحتواء الموقف الذي واجهه في البداية موقف كركر.. دقائق ويناديهم أحد المسئولين عن المساعدة.
الشابان اعتادا تقديم المساعدة للقادمين إلى موقف كركر الدولي بحكم عملهما به، يساهمان في حل مشكلة مسافر أو مساعدة مريض قادم، كانت الأمور هادئة قبل الأزمة، لكن مضى عهد الهدوء بعد الأزمة، يقول منصور وأحمد: "حاليًا إحنا موجودين بنساعد في كل حاجة".
لكن تلك ليست مهنتهما الأساسية، فمنصور وأحمد ينتميان إلى قرية دابود النوبية، لكنهما يقيمان في قرية وادي كركر منذ سنوات من أجل العمل، يعمل منصور جمعة في صيد الأسماك ببحيرة ناصر القريبة من القرية، ويمتلك مطعمًا للأسماك في موقف كركر، لكن بعد اندلاع الأزمة، توقف كل شيء، أما أحمد أبو بكر، فيمتلك محلًا لبيع السلع الغذائية، ويتفق مع منصور في الرأي، ويقول إنه "بعد الأزمة توقفت حركة العمل، لأن حركة السفر من أسوان إلى السودان قلت، وهم بالأساس ممن كانوا يشترون السلع للعودة بها، لكنهم يأتون الآن إلى أسوان في وضع صعب فرارًا من الأحداث، ونحاول مساعدتهم بتوفير مسكن وطعام".
ومنصور وأحمد، من أهالي النوبة، يقولان: "عشنا من قبل شعور ترك منازلنا من أجل بناء خزان أسوان والسد العالي".
يروي منصور معايشته للأزمة قائلًا: "أبرز ما ألاحظه الحالة النفسية السيئة للوافدين وأغلبهم ليسوا في وعيهم، والبعض جاء بملابسه دون حذاء، ويظهر على وجوههم الفزع، حتى الأطفال فاقدة توازنها، ورأيت سيدة بعد الوصول بدأت في الصراخ، وسيدة جاءت بذراع مكسور دون أن تدري وتضاعفت الآلام بعد وصولها، وساعدناها في الوصول إلى أماكن العلاج، فالعمل التطوعي الآن يتم في وسط مناخ مضغوط عكس السابق".
ويتابع منصور: "واجهنا استغلال السائقين في بداية الأزمة، نظرًا للضغط والأحداث المفاجئة، لكن الوضع الآن أصبح أفضل مع انتشار إدارة المرور لمتابعة الالتزام بالأجرة، التي عادت إلى 10 جنيهات، بدلًا من الأسعار المبالغ فيها ووصلت إلى 100 جنيه للفرد، بالإضافة لوجود سيارات النقل المجانية".
مع دقات الساعة الواحدة ظهرًا، تصل الحافلات القادمة من معبريّ أرقين وقسطل تباعًا إلى موقف كركر حاملة الأسر السودانية، والتي فور أن تطأ أقدامها أرض الموقف، تبحث عن سيارات لنقلها إلى أسوان، أو أخرى إلى القاهرة مباشرة، كل هذا يشاهده سيد أحمد، من سكان قرية وادي كركر، وهو يقف بجانب بوابة الخروج، ضمن طواقم مطبخ موقف كركر، مرتديًا مريلة الطبخ يذهب إلى كل ركن بالمطبخ، للتأكد من جاهزية كل الأمور، يتوسط فريق من ثلاثة طهاة يتحركون بسرعة من مكان للثاني، يغسلون أوعية الطبخ الكبيرة للطهي فيها، إلى جانب العديد من المساعدين، يحملون شوالات الحبوب، ويقومون بتقطيع اللحوم والدجاج، في مطبخ صُنع خصيصًا للقادمين من السودان.
يمتلك سيد محلًا بموقف كركر، بينما يشارك في المطبخ بتجهيز الطعام للقادمين، يقول: "بدعم من السائقين وأصحاب المحلات بالموقف، نجمع من كل شخص 100 جنيه لشراء الخضراوات واللحوم، وكانت العملية بسيطة في البداية، نبدأ العمل من الثالثة عصرًا ونصنع ثلاثة أوعية كبيرة فقط، ونوزع الوجبات في المساء وهي في حدود 150 لـ200 وجبة مجانًا، بجانب دورة عملنا الأساسية في الموقف".
لكن سيد يقول أن توافد العائلات السودانية إلى أسوان، بدأ قبل ثلاثة شهور، يقول: "زاد الضغط منذ عيد الفطر، كنا نعمل على مدار 24 ساعة منذ الصباح وحتى الواحدة صباحًا من اليوم الثاني، حتى نستطيع تقديم ما بين 1200 لـ 1300 وجبة يوميًا، أي زيادة 8 أضعاف تقريبًا".
بعد انتهاء الطبخ يقوم المتطوعون بتوزيع الوجبات داخل قرية وادي كركر، ثم يحمل الشباب أصحاب الموتوسيكلات الصغيرة عدد من الوجبات نحو الحافلات التي وصلت إلى الموقف، حيث يوزعون وجبات بعدد المسافرين.
واستقبلت مصر من المعابر الجنوبية "أرقين وقسطل" حتى 9 مايو الجاري، 73,684 شخصًا، بينهم 68,698 سودانيًا، وفقًا للصفحة الرسمية لمفوضية اللاجئين على الحدود المصرية عبر "فيس بوك".
هاجر مكي، متطوعة في موقف كركر، تستقبل السودانيين الوافدين عند استقرار حافلاتهم داخل موقف كركر الدولي، تصعد إلى الحافلة وتقف وتتحدث لهم: "حمد الله على السلامة.. نورتم مصر.. احنا هنا في خدمتكم.. أي حد محتاج مساعدة أو معلومة.. متوفر هنا خدمات طبية وإرشاد"، يقطع صوتها بكاء رضيع، تقاطعها إحدى السودانيات وتخبرها أن الطفلة عمرها عامين وتعاني من الحمى، تساعدهم هاجر في الذهاب إلى مكان يقدم خدمة طبية، ضمن الأماكن التي وفرتها محافظة أسوان، بالإضافة إلى قوافل للكشف الطبي، ومتابعة للوافدين داخل معبر كركر الدولي وعيادات خارجية، وصيدلية لصرف الدواء، بمشاركة عدد من المتطوعين لخدمة ومساعدة الوافدين.
11 يومًا، أمضتها هاجر في موقف كركر، تسافر يوميًا من أسوان إلى قرية كركر وموقف كركر الدولي لتكون في استقبال الوافدين، تصف رحلتها وتقول لـ"عين الأسواني": "مع بداية الأزمة قررت الذهاب للتطوع وتقديم المساعدة للتخفيف عن القادمين، وفي البداية كانت الأعداد كثيرة، كانوا مُرهقين من السفر والأحداث، وبعد 11 يومًا الأعداد أصبحت أقل، وفي هذه الأيام قدمت وزملائي خدمات معنوية وإرشادية للوافدين، وساعدناهم في الوصول للخدمات المتوفرة بالموقف".
منذ شهور تركت نادية أبنائها الخمسة وزوجها في السودان، وذهبت إلى أسوان ثم إلى القاهرة للعمل، حاملة معها طفلتها الرضيعة فقط، لم توفق نادية في الحصول على عمل بعد شهور من الإقامة، لذا حسمت أمرها وقررت العودة إلى السودان قبل إجازة عيد الفطر المبارك، لكن اندلاع الأحداث هناك، أنهى حلم العودة، خاصة وقد تعرضت المدينة التي كانت تسكنها وأسرتها "أم درمان" بالخرطوم لخطر القصف ومقتل المدنيين، تقول: "الأمور صارت صعبة مع حدوث الاشتباكات، زوجي نصحني بالبقاء في مصر، والأوضاع ليست جيدة في أم درمان، السكان يعانون انقطاع المياه والكهرباء ونقص السلع".
الآن، تقيم نادية في قرية وادي كركر، بعد استئجارها منزلًا بقيمة 500 جنيه شهريًا، لحين تهدئة الوضع والعودة إلى السودان، ثم تقطع رحلتها أسبوعيًا من موقف كركر الدولي إلى معبر أرقين البري على الحدود المصرية السودانية، حاملة ما استطاعت من سلع غذائية إلى أسرتها في السودان، تضيف: "أسلم السلع الغذائية من أُرز ومُعلبات إلى أحد السائقين هناك، وأعطيه رقم زوجي ليستلمها منه عند الوصول للحدود السودانية، لأساعد عائلتي في الحصول على غذائهم، ولا أعرف متى تزول الأزمة، أخشى على عائلتي من الخطر، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار تذاكر السفر، لكن هنا في كركر تتوافر الخدمات المجانية التي تساعد على الإقامة".