تُعَدّ الملوحة من الأكلات التراثية الأصيلة التي تحتل مكانة خاصة في ثقافة أهل أسوان، إذ ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمظاهر الاحتفال بعيد الفطر المبارك، حتى أصبحت طقس لا غنى عنه في هذه المناسبات.
وعلى الرغم من أن البعض يتناولها في الأيام العادية، فإن وجودها خلال الأعياد يحمل دلالة خاصة، حيث تجتمع العائلات حولها مع البصل الأخضر، وحلاوة العيد، والفول السوداني، والترمس، في أجواء يملؤها الدفء والبهجة.
ورغم أن الملوحة عنصر ثابت على موائد الأسوانيين في العيد، لكن تتنوع أساليب إعدادها بين نساء أسوان، مما يعكس ثقافة المدينة الغنية وتقاليدها المتوارثة عبر الأجيال.
الملوحة.. بين التقاليد والذوق
من بين نساء أسوان، تروي زينب أحمد، 65 عامًا، تجربتها مع عادة تناول الملوحة، قائلة: "لم أكن معتادة على تناول الملوحة قبل زواجي وانتقالي إلى أسوان منذ 45 عامًا، حيث كانت جديدة عليّ كوني من قنا، لاحظت أن زوجي وعائلته يتناولونها بانتظام، خاصة في الأعياد وآخر جمعة من كل شهر وبدأت أجربها معهم".
بعد سنوات، اكتشفت زينب أن الملوحة جزء متوارث من ثقافة أهل أسوان، بفضل وفرة الأسماك في بحيرة ناصر، وتعلمت تمليحها بنفسها حين أخبرتها إحدى البائعات أنها تفضل إعدادها منزليًا لضمان النظافة والجودة، منذ ذلك الحين، أصبحت زينب تُعدها توفيرًا للتكلفة وحفاظًا على جودتها.
هناك نوعان رئيسيان من الملوحة في أسوان، الأولى الراية، وهي سمكة رفيعة، والكلب، وهي سمكة سميكة بأسنان كبيرة، تُنظف السمكة دون إزالة قشورها، ثم تجفف جيدًا قبل تمليحها بالشطة والملح (200 جرام لكل كيلو سمك)، ثم تُحفظ في برطمانات زجاجية لمدة شهر.
أما عن الأسعار، توضح زينب أن الملوحة كانت تباع بجنيه واحد للكيلو، بينما اليوم يتراوح سعرها بين 80 و250 جنيهًا: "ورغم ارتفاع الأسعار، ستظل الملوحة جزءًا لا يتجزأ من عادات أهل أسوان، خاصة في عيد الفطر".
مثل زينب، نشأت راوية حمد، ربة منزل من أسوان، 55 عامًا، على حب الملوحة كجزء أساسي من طقوس العيد: "منذ طفولتي، وأنا أعرف أن العيد لا يكتمل دون الملوحة والبصل الأخضر".
تحرص راوية على تجهيز الملوحة بنفسها قبل العيد بشهرين، حيث تشتري السمك غير المملح وتصنعها في المنزل. تتبع راوية طريقة والدتها في التمليح وتتشابه مع طريقة زينب.
أما عن طريقة التقديم تكون إما تقشير الجلد وإزالة الشوك، ثم تقطيع اللحم، أو خلط المكونات في الخلاط للحصول على قوام ناعم. لكن القاعدة الأهم كما تؤكد راوية: "لا تُؤكل الملوحة إلا مع العيش الشمسي البلدي، منذ صغري وأنا أعلم أنها لا تكتمل بدونه".
وكما تحتفظ زينب بعادة تجهيز الملوحة منزليًا، تحرص راوية على الاحتفاظ بطقس أسري خاص: "كل عيد، نأخذ الملوحة إلى جنينة فريال القريبة مننا في أسوان، حيث نقضي اليوم في الهواء الطلق، وسط أجواء العيد المبهجة".
من التراث إلى التجارة
كما تعدّ الملوحة جزءًا أساسيًا من ثقافة أسوان، فإنها أصبحت أيضًا مصدر رزق للبعض، مثل أم محمد رجب، التي وجدت فيها فرصة لإعالة أسرتها: "بعد وفاة زوجي، كنت المسؤولة الوحيدة عن تربية أبنائي، قررت أن أبدأ بتمليح الملوحة وبيعها، بفضل هذا المشروع تمكنت من تربيتهم".
مع الوقت، استقرت أم محمد على بيع الملوحة من منزلها في منطقة السيل بدلًا من التنقل بين الأسواق، فكان العمل أكثر استقرارًا وأقل تكلفة: "أقوم بتمليح كميات كبيرة في بداية كل شهر، وأبيعها تدريجيًا، مما يوفر لي دخلًا ثابتًا يلبي احتياجات أسرتي".
أما عن طريقتها: "أشتري الملوحة الخضراء من الصيادين بسعر يتراوح بين 50 و60 جنيهًا للكيلو، ثم أنظفها وأجففها جيدًا، وأضيف إليها الشطة السودانية المطحونة والملح بكمية كبيرة لضمان عدم فسادها، بعدها، أضعها في صفائح مغلقة، وبعد أسبوعين تكون جاهزة للبيع، حيث أبيعها بسعر يتراوح بين 170 و180 جنيهًا للكيلو".
وتؤكد أن الإقبال الأكبر يكون في عيد الفطر وشم النسيم، حيث يحرص أهل أسوان على شرائها وتناولها مع البصل والليمون في الحدائق، كما اعتادوا منذ الصغر: "هذه العادة مستمرة منذ أجيال، وأراها تُنقل من جيل إلى آخر، مما يجعل الملوحة أكثر من مجرد طعام، بل تراث يعيش في بيوت أهل أسوان".
رغم تغير الزمن وتبدل العادات، تظل الملوحة جزءًا لا يتجزأ من هوية أسوان، تتوارثها الأجيال وتحرص نساء الجنوب على إعدادها بحب، سواء لإحياء الطقوس العائلية في العيد أو كمصدر رزق يعينهنّ على أعباء الحياة.