في رحلة معتادة تستغرق ساعات، تتنقل "سلوى إبراهيم"، على فترات متباعدة، ما بين حي العقاد في محافظة أسوان المصرية، ومدينة القلقالة بولاية الجزيرة جنوب الخرطوم بالسودان، ذهابًا وإيابًا من أجل متابعة أعمالها التجارية بين المدينتين.
إلا أنها قبل ثلاثة أشهر فقط، قررت وزوجها التمركز في أسوان لفترة أطول، بحثًا عن تنشيط تجارتهما، على أن تعود فيما بعد، لتفاجئها بداية الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، التي سريعًا ما تطورت أحداثها ودفعت آلاف السودانيين إلى الفرار حفاظًا على حيواتهم، خاصةً مع انعكاس الاشتباكات على توافر أساسيات الحياة، مثل: الطعام والمياه والكهرباء وغياب الأمن وغيرها.
على الفور، بدأت سلوى التفكير في وضع عائلتها التي تركتها خلفها في السودان، نصحها البعض بأن ينزحوا إلى مناطق آمنة داخل السودان، بعيدًا عن الاشتباكات، إلا أن آخرين أخبروها أن الوضع الآمن أن يأتوا إليها في أسوان لفترة مؤقتة، لحين تهدأ الأجواء.
ويعتبر البحث عن مكان للإقامة هو أولى الإجراءات التي يبدأ في الترتيب لها القادمين من السودان، سواء تنسيقًا مع أحد المقيمين في أسوان بالفعل، أو بمجرد أن يصلوا إلى هنا.
ورغم انطلاق العديد من المبادرات لتوفير أماكن إقامة مؤقتة خصوصًا لمن لم يقدر على تحمل تكلفتها وحدهم، بل أن هناك عدة قرى فتحت أبوابها، لتمركز الكثير من الأسر وتقديم المساعدات إليهم، ولكن هذا كله لم يمنع ما شهدته إيجارات الشقق في عدد من أحياء أسوان من الارتفاع، عن النسب المقدرة سابقًا.
بعض القادمين يستطيعون بالفعل تحمل تكلفة هذا الارتفاع، إلا أن آخرين عبّروا عن الزيادة بأنها أكبر من قدرتهم.
حاولت سلوى، مثلًا أن يستأجر ابن عمها وعائلته شقة في نفس العقار الذي تقطنه في حي العقاد، تدفع هي وفقًا لاتفاقها ثلاثة آلاف جنيه شهريًا، لكن طلب المالك الآن إيجار ثمانية آلاف جنيه للشقة المفروشة وخمسة آلاف دون فرش.
المبلغ يعتبر كبيرًا، بالنسبة لأقارب سلوى، ممن توافد على أسوان وفي نيته الإقامة المؤقتة، تقول إن جميعهم ممن يعملون في وظائف حكومية وينتظرون فقط هدوء الأوضاع ليعودوا، ويحاولوا الآن توفيق أوضاعهم لتوفير التكلفة أو البحث عن أماكن أخرى يستطيعون تحمل سدادها.
وتعد منطقة العقاد جنوب مدينة أسوان، أحد الأحياء التي تحتوي على العقارات التي توفر شقق سكنية بإيجار شهري، وتتميز بتوفر الخدمات والبنية التحتية الجيدة مع ارتفاع السلع عن باقي أحياء المدينة.
وقد رصدت "عين الأسواني" على مدار الأيام الماضية، أبرز المناطق تقريبًا التي يرتكز فيها حاليًا السودانيون الفارّون منذ بداية الأحداث، والتي من بينها مناطق يستقر فيها السودانيون بالفعل، والذين يعيشون في المحافظة ما قبل الاشتباكات الأخيرة.
ويبدو حي العقاد الأكثر ارتفاعًا في أسعار الإيجارات التي كانت تتراوح بين ثلاثة وخمسة آلاف قبل الاشتباكات، لتصل إلى ستة آلاف وثمانية آلاف بعدها.
أما منطقة الصداقة، التي تقع شرق المدينة، والمكتظة بالسكان، ورغم وفرة العقارات بها، والشقق المؤجرة للسودانيين المقيمين بأسوان منذ سنوات، والقادمين للعمل بها قبل اندلاع الأزمة، فإنها تعاني نقصا في المرافق والخدمات، وذلك برغم توفر السلع فيها بسعر أقل عن المناطق الأخرى، ويصل سعر الشقة المفروشة فيها إلى حدود ألفيّ جنيهًا قبل الأزمة وبين 2500 إلى ثلاثة آلاف جنيه بعد الأزمة.
ارتفاع أسعار الشقق دفع السودانيين إلى حلول أخرى، من بينها التأجير باليوم، وهو ما تتيحه بعض النُزل الخاصة؛ إلا أن المشكلة هي عدم توافر التجهيزات الكاملة في بعض هذه النزل لإقامة عائلات بالكامل.
مثلما حدث مع رحاب حسن، التي فرّت من أم درمان إلى مصر، بعد انقطاع المياه والكهرباء ونقص الخدمات الطبية واستغرقت في الفرار 13 يومًا، وصلت بعدها إلى مصر والتي سبق التردد عليها لعلاج زوجها.
لكن لا تسمح ظروف رحاب باستئجار شقة خاصة، لذا لجأت هي وزوجها وأولادها الخمسة وأختها وأولادها إلى تأجير غرفة سكنية، توفرها إحدى الجمعيات بسعر 50 جنيهًا لليوم الواحد بمنطقة السيل، القريبة من سوق الخميس للخضراوات.
لا تضم الغرفة سوى الأَسِرَّة فقط، بينما لم يتوافر في النُزل أجهزة كهربائية تحتاج رحاب إلى خدماتها، مثل "ثلاجة وموقد لطهي الطعام وغسالة ملابس"، فوجدت نفسها أمام أزمة في حفظ حُقن الأنسولين التي يحتاجها زوجها المريض بالسكري كل ثلاثة أيام؛ لذا اعتمدت على توفيره من الصيدليات كلما احتاجها.
حاولت رحاب البحث عن شقة بسعر معقول، فوجدت أنها ستحتاج إلى ما لا يقل عن ستة آلاف جنيه، أربعة آلاف للإيجار وألفين للتأمين، وذلك لشقة من غرفة واحدة.
تقول لـ”عين الأسواني”: "ليس لديّ مانع في النوم بشقة على الأرض، المهم وجود ثلاجة لحفظ الأنسولين وموقد لطهي الطعام المخصص لزوجي فلا يستطيع لمرضه تحمل وجبات المطاعم، ولشدة مرض زوجي لا يعمل حاليًا”.
رحاب كانت تملك خاتم ذهب، اضطرت لبيعه للإنفاق على الأسرة وأولاد شقيقتها.. تتذكر ليلة الفرار وتقول: “في السودان لدينا بيت وتكييفات وشاشات، لكن تركناها، ولم نخرج سوى بملابسنا".
قلق رحاب مُقسم بين مدينتين، هنا في أسوان وهناك في الخرطوم، بين قلق على أسرتها، وقلق ثاني على أختها، التي عادت إلى الخرطوم، لاصطحاب والدتهما وأختهما الثالثة بعد تدهور الأوضاع، مرض الأم منعها من السفر معهم، تعرف رحاب مشقة الرحلة المستمرة إلى أيام، ونقص الطعام والماء، كما تبدو رحاب قلق على مصير الأخت الثالثة، وتسأل ماذا لو لم تحصل عل تأشيرة دخول.. هل نتركها في السودان!.
القصص المشابهة للأوضاع الاقتصادية لأسرتيّ سلوى ورحاب كثيرة، ومنهم من لا يستطيعون تحمل تكلفة الإقامة في الفنادق، والتي لم تزدد أسعارها إلا أن تكلفتها أكبر من قدرة أغلب الفارّين إلى الداخل.
واستطاع "عين الأسواني" تقديم خريطة كاملة للفنادق في أسوان، بعد تواصله مع نادر نصيف، رئيس غرفة المنشآت السياحية بأسوان، الذي يقول إن أسوان تحتوي على 7 فنادق كبيرة درجة 5 نجوم، ويليها الفنادق الأقل بين 12 إلى 15 فندقًا، بالإضافة إلى الفنادق في قرية غرب سهيل التي تتخطى المائة بيت نوبي ومجهزة لاستقبال النزلاء، وهي غير مقننة من جانب وزارة السياحة وليس لدينا بيانات عنها، هكذا يوضح نصيف.
وتحدث نصيف عن نسبة الإشغالات، والتي وصلت على الفنادق إلى 100 % “الاكتمال" منذ منتصف أبريل الماضي ـ وهي تاريخ بداية الأزمة في السودان ـ لكن حاليًا في شهر مايو، الإقبال أقل بين 60 إلى 70 %، وهو زيادة عن شهر مايو من العام الماضي بنسبة 20 إلى 30 %، وهي نسبة غير معتادة في شهر مايو من كل عام، وأرجع نصيف ذلك إلى توافد السودانيين إلى المدينة، والسياح من الجنسيات الأخرى مثل الألمان والأسبان والطليان.
ولم يغير الإقبال في أسعار الفنادق، وفقًا لنصيف؛ لأن الزيادة لا تقاس على الطلب، ولكن الأسعار محددة مسبقًا منذ بداية الموسم، وهي مُعلنة من وزارة السياحة، ومواقع حجز الفنادق على الانترنت.
وأرجع نصيف، الزيادة السابقة لتغير سعر صرف الجنيه أمام الدولار، وارتفاع أسعار السلع والسولار بنسبة من 5 إلى 10 %.
وتبلغ، أسعار الفنادق الخمسة نجوم 100 دولار، والأربعة نجوم 80 دولارًا، والثلاثة نجوم 60 دولارًا لليلة الواحدة للسائح الأجنبي، ويتعامل المقيم السوداني كسائح أجنبي، ويصل متوسط سعر الغرفة لليلة واحدة بين 700 لـ 3000 جنيه.
في مقابل ذلك خرجت عدة مبادرات مجتمعية ومساهمات من أفراد، للمشاركة في التخفيف من الأزمة بقدر الإمكان، وبالإمكانيات المتاحة، وذلك عبر توفير إقامات مجانية من أفراد وجمعيات ونُزل شباب بأسعار رمزية.
مثل نُزل شباب منطقة الحصايا بالحكروب، الذي يضم 10 غرف تحتوى على عدد أَسِرَّة قليلة، لكن منذ الأزمة ضاعف عزب سيد، مدير النزل، عدد الأَسِرَّة إلى 7 في الغرفة الواحدة.
يقول عزب لـ"عين الأسواني": “السعر نفسه للمصريين والسودانيين، حتى يتسع لعدد أكبر، ويتواصل معي بعض الأفراد لتوفير أسِرَّة أخرى، لكنني لا أملك القدرة، لكن هناك من الجمعيات والأفراد من تبرع بوجبات غذائية ووفر مراتب كحل في ظل الأزمة".
أما مدرسة نوبل للتعليم السوداني، الواقعة في حي العقاد، فتحولت هي الأخرى لمقر إقامة مؤقت لبعض الأسر السودانية منذ اندلاع الأزمة، وتوقف حركة التعليم فيها.
تقدم المدرسة المناهج الدراسية الخاصة بالنظام التعليمي في السودان، ومسجلة بوزارة التربية والتعليم للمدارس الخاصة بمصر، تحت إشراف القنصلية والسفارة السودانية، لمراحل التعليم ما قبل الجامعي.
صفاء فضل، مديرة المدرسة، أوضحت لـ"عين الأسواني"، أن أسعار عروض السكن ارتفعت لدرجة وصول ثمن الإقامة 3 أيام إلى نفس قيمة الإيجار الشهري قبل اندلاع الأزمة.
ويوضح أسامة فتحي، رئيس مجلس إدارة جمعية "منشية النوبة" بأسوان، إن الجمعيات تحاول مساعدة الأسر القادمة إلى أسوان عبر البحث عن سكن للإقامة بسعر معقول.
ويضيف: “ كنا نؤجر في حي العقاد بسعر 250 في اليوم، وبعد قدوم السودانيين، قفزت الأسعار إلى ما بين 800 إلى 1000 جنيه، لذا نبحث عن السعر الحقيقي للقادمين، لأن خططهم الاستراحة، ثم مواصلة السفر خارج أسوان”.
وتعد مصر الآن، إحدى أكبر الدول التي لجأ السودانيون إليها، وفقًا لتقديرات وزارة الخارجية المصرية الأخيرة، إذ وصل العدد إلى 52 ألف سوداني عبر الحدود إلى هنا منذ بداية الاشتباكات، وهو عدد قابل للزيادة في ظل استمرار الصراع هناك.