هروب القرّاء.. غلاء أسعار الكتب بين أحلام الزوار وتحديات دور النشر

تصوير: تسبيح السيد محمود - غلاء أسعار الكتب

بعد 13 عامًا من المشاركة في معرض القاهرة الدولي للكتاب، قرر بلال العراج، محامي، عدم الذهاب هذا العام إلى المعرض بسبب ارتفاع أسعار الكتب، فأصبح من الصعب عليه شراء ما يرغب فيه من إصدارات جديدة بسبب الغلاء، إذ فضّل توفير المال لقوت يومه ومصاريف أبنائه. 

يبلغ بلال من العمر 53 عامًا، وكان معتادًا على زيارة المعرض لسنوات طويلة، لكنه تخلى عن تلك العادة. إلى جانب غلاء الكتب، يواجه بلال مشكلة بُعد المعرض عن مكان سكنه في منطقة دار السلام، مما يترتب عليه تكاليف إضافية للنقل والمواصلات إلى جانب الكتب التي تحتاج ميزانية إضافية وفق وصفه.

اصطدمت أحلام القرّاء هذا العام بارتفاعات ضخة في أسعار الكتب؛ بسبب زيادة تكاليف الورق والطباعة، مما شكل تحديًا أمام دور النشر لتقديم إصدارات تتماشى مع تلك الزيادات، مما يدفعها إلى زيادة أسعار الكتب، ويهدد استمرارية القراءة لدى العديد من الأشخاص الذين لا يستطيعون تحمل هذه الأعباء المالية.

أزمة الاستيراد

يؤكد عمرو خضر، رئيس شعبة الطباعة والورق بالغرف التجارية، أن أسعار الورق شهدت زيادة كبيرة هذا العام، حيث ارتفع سعر الطن من 550 إلى 820 دولارًا، مما يعادل زيادة بنسبة 20%، مبينًا أن هذه الزيادة أثرت بشكل ملحوظ على أسعار الكتب المعروضة. 

يوضح لـ"صوت السلام" أن مصر تعتمد على الاستيراد لتلبية أكثر من ثلثي احتياجاتها من الورق، حيث يصل حجم الاستيراد إلى 270 ألف طن سنويًا، مما يشكل 70% من إجمالي الاستهلاك المحلي، ويزيد ذلك من الضغط على احتياطي العملة الصعبة، خاصة من دول مثل الصين وألمانيا والنمسا، مما يعمق أزمة الورق.

وصل الإنتاج المحلي من الورق في مصر عام 2024 إلى 180 ألف طن سنويًا، بينما تتراوح احتياجات السوق بين 400 و450 ألف طن سنويًا، مما يعكس الفجوة الكبيرة بين الإنتاج المحلي والطلب ويزيد من عبء فاتورة الاستيراد.

ورغم تلك الزيادات، يشير خضر إلى ضرورة عدم تجاوز زيادة سعر الكتاب 10%؛ لأن الورق يمثل ما بين 80% و85% من تكلفة الكتاب النهائي.

قلة مصانع الورق

بينما يعزو يحيى فكري، مدير دار المرايا للنشر والتوزيع، تلك الفجوة إلى قلة مصانع الورق في مصر، لذلك فإن السوق المحلي لا يغطي الاحتياجات، مضيفًا: "لم يكن غلاء الورق متناسبًا مع ارتفاع سعر الدولار، فكانت أكبر زيادة في سعر الدولار بمعدل ثلاثة أضعاف، بينما ارتفع سعر الورق من 8 إلى 10 أضعاف خلال آخر عام ونصف".

ويوضح لـ"صوت السلام" أن تلك العوامل تؤثر في النهاية على سعر الكتاب ولا تستطيع الدار تقديم المزيد من العروض على الكتب، مبينًا أن هناك حاجة مُلحة لوجود مصانع ورق، وتقديم تسهيلات للناشرين في عمليات الاستيراد مثل وجود تعاونيات أو الإعفاء من الجمارك على طن الورق.

وصل سعر طن الورق في سبتمبر إلى 44 و46 ألف جنيه للطن من الورق المحلي، بينما تراوحت أسعار الورق المستورد بين 47 و49 ألف جنيه للطن، وفق الغرف التجارية للورق والطباعة.

ما ذكره فكري يتسق مع حديث محمود عبدالنبي، مدير عام دار منشورات إبييدي، إذ يؤكد لـ"صوت السلام" أن هناك حاجة مُلحة لإنشاء مصنع لإنتاج ورق خاص بالطباعة والروايات، لأن الإنتاج المحلي الحالي سيء بحسب وصفه، ولا يكون مناسبًا لطباعة الكتب والروايات.

ويوضح :"زيادة أسعار الكتب لها أثر على عدد الطبعات، فبعد أن كانت الطبعة تتجاوز الـ500 نسخة، أصبحت الآن لا تتعدى 50 نسخة، مما يحرم القراء من بعض الإصدارات التي تنفد كميتها من دور النشر لعدم وجود سيولة للاستمرار في الطباعة".

مقاطعة المعرض

مصطفى، 22 عامًا، يقطن في دار السلام، أحد المحرومين من القراءة في معرض الكتاب، إذ كان يحرص على زيارته كل عام بسبب حبه العميق للقراءة ورغبته في الاستفادة من المقررات البحثية التي يقدمها المعرض. لكن هذا العام، لم يتمكن من تلك الزيارة المعهودة؛ بسبب الزيادة الكبيرة في أسعار الكتب، مما شكل عائقًا أمام استمرار شغفه بالقراءة.

يقول مصطفى لـ"صوت السلام": "قاطعت معرض الكتاب هذا العام بسبب غلاء أسعار الكتب، فالبعض منها وصل إلى 600 جنيه، مما جعلني غير قادر على شرائها، وفي نفس الوقت لا أجد بديل لاشباع رغبتي في حب القراءة ولا أعرف لماذا ارتفعت أسعار الكتب بهذا الشكل".

وصل عدد زائري المعرض هذا العام عقب 9 أيام من افتتاحه إلى 3.5 مليون زائر، بينما العام الماضي خلال نفس الفترة كان عدد الزوار 4 مليون و30 ألف.

جانب آخر للأزمة يتحدث عنه محمود حربي، مسؤول المكتبات والمعارض في دار تنمية، إذ يقول لـ"صوت السلام": "إضافة لذلك، لدى الناشر مسؤولية تغطية تكلفة حقوق المؤلفين والترجمات، مما يزيد من العبء المادي على الدار، إلى جانب تكاليف إخراج الكتاب بشكل يناسب جودة العمل، مما يعقد مهمة الناشر، ويضطره للبحث عن حلول مبتكرة للحفاظ على استمرارية النشر وجودة المحتوى".

ليس الورق وحده هو السبب في زيادة أسعار الكتب هذا العام، ولكن إيجارات الأجنحة داخل المعرض ارتفعت أيضًا. وفقًا لموقع الهيئة العامة للكتاب، تتراوح أسعار إيجار الأجنحة للعام 2025 في الصالة الرئيسية بين 220 دولارًا للمتر الواحد للعارضين غير المصريين، لكن يبلغ السعر للمصريين 5000 جنيه للمتر الواحد.

بينما تبدأ المساحات المؤجرة من 9 متر مربع وتصل حتى 117 متر مربع، وعند تجاوز هذه المساحات، ترتفع القيمة الإيجارية بنسبة 100% لتصل إلى 2200 جنيه للمتر الواحد بالنسبة لدور النشر المصرية. 

أما بالنسبة للعارضين غير المصريين، فإن المساحة المسموح بها لكل دور نشر تتراوح بين 9 متر مربع و36 متر مربع، وفي حال تجاوز المساحة، يتم زيادة القيمة الإيجارية بنسبة 50% ليصل سعر المتر الزائد إلى 140 دولارًا.

أزمة الإيجارات

ويعلق عبدالنبي على أسعار الإيجارات: "شهدت إيجارات الأجنحة في المعرض زيادة كبيرة في العامين الماضيين، ولم يكن معرض القاهرة الدولي هو الوحيد المتأثر بذلك، بل جميع المعارض الكبرى شهدت ارتفاعًا في أسعار الإيجارات".

وأدت أزمة غلاء إيجارات الأجنحة إلى لجوء دور النشر لتقليل العمالة أو زيادة أسعار الكتب من أجل تحقيق هامش الربح العادل، وفق عبدالنبي.

نفس الحل لجأت إليه مكتبة تنمية، وهو تقليل العمالة لمواجهة أزمات ارتفاع أسعار الكتب والإيجارات، إذ يوضح محمود حربي، مسؤول المكتبات والمعارض في مكتبة تنمية، أن تلك الأزمات أثرت على القدرة الشرائية للقرّاء وإقبالهم، مما يسبب خسائر لدور النشر.

لجأت تنمية إلى حل آخر وهو الطباعة المشتركة مع دور النشر الكبيرة بهدف تقليل التكلفة والاستيراد من الخارج للخامات اللازمة، وفق حربي، الذي بين أن هناك محاولات أيضًا للحصول على منح من المؤسسات المهتمة بالثقافة والتوعية التي قد تتحمل تكلفة طباعة الكتب.

ويواجه الناشرون تحديًا كبيرًا في تحقيق التوازن بين تقديم الكتاب بسعر يتناسب مع القدرة الشرائية للمواطنين من جهة، ومن جهة أخرى تحقيق العائد المادي الكافي لاستمرار عملية الإنتاج المعرفي، بحسب حربي.

نفس التحدي تواجهه دار "كوتوبيا" التي تأثرت بشكل كبير بارتفاع أسعار الورق والإيجارات، مما أثر على مبيعاتها وهامش ربحها لهذا العام، وهو ما أوضحه أيمن حويرة، مدير الدار لـ"صوت السلام".

يقول: "تأثرنا بالعوامل الاقتصادية بداية من ارتفاع سعر الورق لعدم كفاية الإنتاج المحلي، مرورًا بارتفاع أسعار الإيجارات، لذلك قررنا تقليل عدد الطبعات للكتاب، لكن ذلك يؤثر على وصوله لأكبر عدد من القرّاء، ويؤثر على هامش الربح العادل للدار".

مصطفى وبلال ليسا الوحيدين الذين قرروا مقاطعة معرض الكتاب هذا العام بسبب ارتفاع الأسعار. إسراء نوح عشرينية، تقطن في دار السلام، تواجه نفس الأزمة، خاصة في تلبية احتياجات أطفالها من الكتب.

كانت كل عام تشتري لهم من جناح الطفل عدد من الكتب التي تطور مهاراتهم، لكن دفع ارتفاع أسعار الكتب إسراء هذا العام، إلى اختيار كتاب واحد فقط لأطفالها: "الأطفال اتحرموا من التنوع لعدم وجود إمكانية شراء أكثر من كتاب".

أمام رغبات مصطفى وبلال وإسراء في استمرار زيارتهم لمعرض الكتاب، تظل دور النشر حائرة بين تقديم إصدارات تتناسب مع القدرة الشرائية للقراء، وتغطية تكاليف الإنتاج التي ترتفع باستمرار؛ نتيجة زيادة أسعار الورق والإيجارات والتكاليف الأخرى.

 

 

 

تصوير: تسبيح السيد - غلاء أسعار الكتب