حالة من الاستياء والحزن انتابت العديد من المهتمين بالتراث والآثار فور نشر صورة هدم مدفن "حليم باشا" وقبة "مستولدة محمد علي" اللذان يقعان داخل مقابر الإمام الشافعي، وذلك ضمن عمليات الإزالة التي شملت عدة مقابر في المنطقة من أجل إنشاء مشروع محور مروري جديد بالمنطقة.
وخلال الأيام الماضية تداول مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، صورة هدم مدفن حليم باشا وهو سياسي مصري عثماني من أسرة محمد علي، وظهر المدفن بنصف قبة، والنصف الأخر مهدوم، في مشهد تسبب في غضب البعض، وتساؤل عن سبب هدم هذا التراث، ونشر بعض المتخصصين منشورات عن الأهمية التاريخية والثقافية والفنية لتلك المقابر.
فيما أعلنت نقابة المهندسين صباح اليوم في بيان رسمي، عن تشكيل لجنة مختصة عاجلة من الخبراء المعماريين، لبحث هذه الأزمة التي عادت إلى الواجهة مرة أخرى في ظل تسارع وتيرة الهدم بالمنطقة. ووفقًا للبيان، قررت النقابة إنشاء اللجنة بهدف "إعادة النظر في تنفيذ أية مشروعات في تلك المنطقة التاريخية التراثية الحساسة المحمية بالقوانين المصرية والمواثيق الدولية، والبحث عن محاور وحلول بديلة تُراعى فيها القيمة المعمارية والتراثية والتاريخية والإنسانية لحماية جبانة القاهرة التاريخية" حسب ما ذكر البيان.
وقال طارق النبراوي -نقيب المهندسين- لـ "صوت السلام" إن اللجنة ستقوم بالرصد وكشف الحقيقة وتقديم أوراق تخص هذا التراث، وإن إعلان تشكيلها اليوم جاء بسبب العمل بشكل مؤسسي في النقابة، وأخذ وقت في هذا التشكيل لضمان أن تكون فعالة في هذا الحدث، وتقديم مقترحات للرأي العام الهندسي، للحفاظ على التراث والتاريخ، والبعد عن التأثير السلبي للهدم وفقد هوية القاهرة، ويضيف "نأسف وكل مصري حزين على هذا العمل".
وتعود أزمة هدم "قرافات" الإمام الشافعي لتطوير طريق صلاح سالم، بداية من قرار إنشاء محور جيهان السادات (محور الفردوس سابقًا)، حتى منطقة الفسطاط وإنشاء متحف الحضارة، ذلك في 2021، والذي تسبب في هدم المقابر المتواجدة على جانبي الطريق، وهما السيدة نفيسة وباب الوزير، الطحاوية و سيدي جلال وسيدي عمر، ومقابر الإمام الشافعي التي تهدم مؤخرًا، لاستكمال تطوير الطريق.
وكانت محافظة القاهرة قد أعلنت أنها ستزيل 2700 مقبرة في القاهرة القديمة من أجل بناء محور "الفردوس"، للربط بين منطقة وسط القاهرة، والمحاور الرئيسية الطولية "صلاح سالم – الأتوستراد – امتداد محور المشير طنطاوي، والطريق الدائرى، والقاهرة الجديدة، وصولاً إلى العاصمة الإدارية الجديدة".
أزمة القوانين
تجدد الحديث عن هدم المدافن، بسبب بدء الجهات التنفيذية في هدم مقابر الإمام الشافعي في الأسبوع الثالث من أكتوبر الجاري، والتي تعد أقدم مدافن إسلامية في العالم، وأدرجت في خرائط القاهرة، بمركز التراث العالمي لليونسكو في 2008، من الفترة 1481 حتى 1993، وتوضح خريطة المنطقة كاملة، التي تعتبرها المنظمة التابعة للأمم المتحدة كتراث عالمي، بجانب خرائط مقابر السيدة نفيسة والفسطاط و أحمد أبن طولون، الذين تم تطويرهم خلال خطة التطوير.
لكن على الناحية المحلية، لم تدرج مصر تلك المقابر كآثار، وبحسب قانون حماية آثار رقم 177 لعام 1983، بموجب المادة 4 ، فـ "المباني الأثرية هي المباني التي سجلت بمقتضى قرارات أو أوامر سابقة على العمل بهذا القانون، أو التي يصدر بتسجيلها قرار باعتبارها أثرا وفقا لأحكام هذا القانون".
ورغم وجود قانون خاص لتسجيل وحماية الآثار إلا أن العديد من المباني التي زاد عمرها عن 100 عام، لم تسجلها الجهات الحكومية كآثار أو حتي تراث معماري فريد بجهاز التنسيق الحضاري التابع لوزارة الثقافة، رغم سعي مصر لسنوات تسجيل تراثها في اليونسكو.
يقول ميشيل حنا -كاتب وروائي مهتم بتوثيق المعماري المصري- إن هناك "خلل" في تعريف الآثار والتراث في مصر، وإن وزارة الآثار تعتبر الأثر هو ما يسجل لديها على الأوراق فقط، وكل ما هو خارج التسجيل ليس أثرا، "حتى لو كان عمره ألف سنة"، ومع كل اعتراض على الهدم يكون التصريحات المتداولة أن ما تم هدمه ليس أثر. يعلق حنا على ذلك أنها مبررات ليس لها معنى.
ويتوقع حنا أن اليونسكو تخرج القاهرة من قوائم التراث الإنساني، بسبب الهدم، لأن المقابر هي الجزء الوحيد المسجل كتراث إنساني للقاهرة، يعبر عن هوايتها عالميًا، إلى جانب أن حنا يرى أن نداءات البعض لليونسكو لمنع الهدم ليس صحيح، لأن اليونسكو ليس جهة تنفيذ، هي منظمة توثيقة فقط.
هدم قبة حليم باشا
وبعد تداول صورة هدم قبة حليم باشا يوم الثلاثاء، 22 أكتوبر، في صباح الأربعاء الماضي، تقدم النائب عبد المنعم إمام -عضو مجلس النواب- بطلب إحاطة للمجلس لمعرفة سبب هدم القبة، وإجراءات الحفاظ على التراث المعماري والتاريخي، مؤكدًا على أن "التصرف يمثل تهديدا للمواقع الأثرية والتراثية التي تشكل جزءا أساسيا من الهوية المصرية، لافتا إلى أن الحفاظ على هذه المواقع يتطلب جهودا مكثفة وتعاونا بين الوزارات المختصة".
وعلقت على الحدث مها عبد الناصر -عضو مجلس النواب- عبر صفحتها على "الفيسبوك"، ووصفت ما يحدث "تراثنا المعماري هو جزء لا يتجزأ من هويتنا وتاريخنا، وهدم مثل هذه المعالم يشوه الذاكرة الجماعية للمصريين"، وطالبت بوقف الهدم وعمل مراجعة شاملة من كل الجهات المعنية لكل الأعمال لحماية التراث.
ورغم أن أعمال الهدم بدأت منذ ثلاث سنوات، إلا أن الغضب ازداد في الأيام الأخيرة، وتحديدًا صور هدم قبة حليم باشا. يعلق حنا عن سبب الغضب، قائلًا: "الناس غضبت علشان القبة كانت بارعة الجمال، مين يجيله قلب يكسر في حاجة زي كده!، القبة دي بالذات كانت مميزة جدًا لدرجة أن محدش كان متوقع انها تتهد، لكن فعل هدم القبة كان شديد الفجاجة، وده وصل الناس للغضب"، مؤكدًا أن كان يوجد حلول بديلة للتخطيط للطرق، تضمن عدم المساس بالمقابر.
ومن الناحية التاريخية؛ قال عبدالعظيم عبده -مؤسس مبادرة سيرة القاهرة- لـ" صوت السلام"، إن أكثر المواقع التى يوجد بها تراث مملوكي الحديث، هي مدافن الإمام الشافعي، "فلا يوجد تعليق على هدم تراث يشكل هويتنا، أو مادة علمية كان يمكن دراستها، أو على الأقل إنتماء لتاريخنا"، ويرى أن سبب الغضب الشديد على قبة حليم باشا، لأن الصورة التقطت أثناء عملية الهدم، وذلك التوثيق لم يحدث اثناء سنوات الهدم، واعتبر الصورة بمثابة بوابة لفتح الحديث عن الهدم والتراث.
الذاكرة القاهرية
واعتبر عبده أن الهدم هو مسلسل لمحو الذاكرة القاهرية، وهي المدينة التي شهدت تاريخ طويل من التراث الجنائزي، وبالتالي اندثار هذا الجزء من تاريخ القاهرة والنسيج العمراني للقاهرة، ثم النتيجة محو الهوية الوطنية التى جزء رئيسي منها هو التراث، بعد سنوات من الهدم، ووصف عبده القاهرة أنها في مرحلة "الاغتراب" عن هويتها ومعالمها.
ولم تكن الاجراءات الحالية هي المرة الأولى لاستهداف ومحو التراث الجنائزي للقاهرة، بهدف تطوير شبكات الطرق، فبحسب دراسة وبحث عبده يصف التاريخ الحديث للقاهرة "سئ في الهدم"، بداية من شق المقابر لفتح طريق صلاح سالم في الستينات، والقضاء على عدد من المقابر لفتح "الاوتوستراد"، وفي التسعينات مع إنشاء الطريق البنهاوي، تم محو عدد من مدافن باب النصر، وكان في القرار الأسهل على حساب المدينة القديمة، ثم تكرار المشهد حاليًا.
يقول عبده عن المشهد الحالي: " الاختلاف حاليًا هي الجرأة السرعة في اتخاذ القرار، وعدم فتح المجال للمناقشة مع المتهمين والمتخصصين، أو مساحة تقديم أوراق بحثية لمتخذي القرار، لوضع حلول بديلة، لكن الكارثة بتيجي من سرعة تنفيذ القرار".
وقدمت سيرة القاهرة -مبادرة مستقلة تعمل على توثيق تراث مدينة القاهرة- "برومو" فيلم "مجاذيب القرافة"، يحكي عنها من خلال متخصصين، ويقول عبده: "احنا دورنا بيقف عند التوثيق، ده كان شئ مهم أننا نطلع الفيلم لأن كان عندنا توقع للهدم، إلى جانب عدد من الكتابات التي تهدف للتوثيق ونعمل على إطلاقها".
إيضًا قدمت صفحة "جبانات مصر" -صفحة مهتمة يتوثيق تاريخ الجبانات- صور عبر صفحتهم توثق شكل المدافن قبل الهدم، وتحديدًا الجزء الفني والجمالي بتفاصيل المقابر، لكن لم يستطيع طايع والقائمين على الصفحة حضور الهدم، وتوثيقه بسبب التشديدات الأمنية.
"مقابر الإمام الشافعي ليست مجرد مقابر بل هي قيمة معمارية فريدة"، يعلق إبراهيم طايع- مؤسس صفحة جبانات مصر- لـ "صوت السلام"، وأضاف: "نحن فقدنا قيمة معمارية وفنية وتاريخية، بداية من أصغر تفاصيل المقابر من رسم وخطوط وتصميمات داخلية وخارجية وشكل القبب، فهي جزء لا يتجزأ من تاريخ لمدة 1400 عام، بداية من دخول الإسلام مصر حتى أسرة محمد علي، فهي كانت متاحف إسلامية وليست مدافن".
خطوط فريدة
ويوضح محمد شافعي -فنان وموثق خطوط الجبانات- لـ "صوت السلام" أن مدافن الامام الشافعي مميزة، وتحديدًا مثال قبة حليم باشا كانت تتميز بطابع التراث المملوكي، من خلال المزج بين الزخارف النباتية والهندسية، واستخدام الخط العربي "خط الثلث" وهو نوع خط عربي إسلامي يعود إلى القرن الرابع إسلاميًا، واستخدم هذا الخط في تلك القبة وبعض المقابر الأخرى، من خلال كتابة أبيات شعر رثاء في المتوفى، إلى جانب استخدام الذهب أو الفضة في خامات كتابتها.
وقد بدأت الجهات التنفيذية بهدم مقبرة محمود سامي البارودي -شاعر وسياسي مصري في القرن التاسع عشر- في صباح الأربعاء الماضي، وعلى الناحية الفنية يوضح الشافعي أن المدفن يتميز مقصورة دفن مصنوعة من النحاس، واستخدامه يعد نموذج فريد في العصر الحديث، لأن المقصورات أغلبها مصنوع من الحجر والرخام، بينما تحمل المقصورة خطوط وتوقيع "يوسف أحمد"، وهو فنان صمم أغلب الخطوط في مقابر الشافعي، وينسب له إعادة إحياء الخط الكوفي، أحد أقدم الخطوط الإسلامية، واحي الخط في المساجد والمدافن وتعليم الطلاب في مدرسة الخطوط الملكية، ذلك في القرن التاسع عشر.
يرى شافعي أن بهدم "قرافة" الإمام الشافعي سوف نفقد كتاب مفتوح من تاريخ مصر الإسلامي، وأعمال فنانين وتوقيعهم، ويضر هذا الأمر بمصر في توثيق مسيرة فنون إسلامية بشكل عام، وتاريخ الخطوط الإسلامية بشكل خاص، لأن حتى سنوات قريبة كان الاكتشافات الفنية في المكان مستمرة، وإعادة دراسة المتخصصين وتقديم أبحاث مستمر، كما يمكن أن يستخدم دراسي التاريخ المقابر لقراءة النواحي الاجتماعي والفكرية لتلك الفترة.
ويستكمل حديثه: " يألف الشعب المصري الجمال، فلو فقد التغذية البصرية التي اعتادها لسنوات بمجرد المرور من شوارع القاهرة القديمة، أتوقع أن يلي ذلك سيادة النموذج المضاد -القبيح- معماريًا وفنيًا".