"هذه آخر ساعة لكم، يجب أن تقوموا بالإخلاء فورًا.. جيش الدفاع الإسرائيلي"، سطر وحيد، في رسالة أسقطت طائرات جيش الاحتلال الاسرائيلي المئات منها، بورق ملون بالأخضر والأبيض، لتُحذر النازحين في مدرسة شجرة الدر الأساسية بنات في منطقة بني سهيلا بمدينة خان يونس.
60 دقيقة ستفصل بين إسقاط المنشور، وعمليات قصف النازحين من شمال قطاع غزة لجنوبه، حيث تقع خان يونس، ليتأكد، بجانب القصف المنتظر للمدنيين، تدمير مبنى كان منذ شهور قليلة مقرًا لتعلم فتيات خان يونس، ومساحة أمل لخروجهن للعالم.
وبين سكان المدرسة المهددين بالقصف ما لم ينصاعوا لرحلة نزوح أخرى، تلقفت يد "مريم أبو ذكري"، إحدى الرسائل. قرأتها بيد، وبالأخرى كانت تحمل طفلها الرضيع. لم تُلقها جانبًا، بل وجمّعت بعض الرسائل المُلقاة على أرض المدرسة، وأشارت لأربعة فتيات شقيقات طفلها الرضيع، لتجمعهن حولها وتُقنعهن باللعب طوال الساعات الخمس القادمة.
ستبدأون الآن "الماراثون".. هكذا حدثّتهم الأم، التي انهمكت في تحويل رسائل التهديد بالإبادة إلى طائرات ورقية، استطاعت من خلالها إلهاء طفلاتها الأربعة عن مشقّة السير جنوبًا، ليتسابقن على من ستُمسك بالطائرة الورقية قبل الأخرى، في "لعبة النزوح".
منذ 7 أكتوبر الماضي، قصفت إسرائيل قطاع غزة، ردًا على عملية "طوفان الأقصى"، التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية، فنزح حوالي 1,7 مليون فرد من شمال القطاع إلى جنوبه، بحسب تقرير الأونروا "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين" في 6 مايو الجاري، ما يُمثّل 75% من سكان القطاع.
لعبة النزوح التي كانت رفح آخر محطاتها بالنسبة لمريم، بدأت بعدما نزحت من منزلها في حي الفراحين بشمال القطاع في 8 أكتوبر، بسبب قصف مبنى سكني قريب منها، ثم منطقة بني سُهيلا في منزل لأسرة استضافتهم، بعدها تعرضت المنطقة للقصف، فنزحت مرة أخرى إلى مدرسة شجرة الدر التي استقبلت منشورات جيش الاحتلال الإسرائيلي.
انتقلت الأسرة إلى رفح في صقيع شهر ديسمبر، وتعاون عددًا من النازحين في عمل خيمة للأطفال والنساء، وحمام مشترك، لكن الأمطار تسببت في غرق الخيام، مما عرّض الأطفال والنساء إلى شرّ عدم وجود مأوى والبرد في آنٍ واحد.
حوالي 14كيلو متر قطعتها مريم وأطفالها الخمس، منذ انطلاق "ماراثون النزوح"، وعبر تطبيق خرائط جوجل، يتبيّن من خط سير الأسرة التي بدأت التحرك في 8 أكتوبر أنها قطعت 3.49 كم من حي الفراحين شرقًا إلى منطقة بني سهيلا غربًا، ثم قطعت 600 متر غربًا مرة أخرى إلى مدرسة شجرة الدر، بعدها قطعت 9.17 كم جنوبًا إلى منطقة رفح.
مسار رحلةمريم عبر تطبيق خرائط جوجل
هددت قوات الاحتلال باجتياح رفح أكثر من مرة، من خلال بيانات وزارة دفاع الاحتلال، في أبريل الماضي، وقالت مريم "حصلت على الجنسية الأردنية عن والدي، فكان لي ولأطفالي فرصة أفضل في الوصول إلى مصر، لأن الأطفال تحت السن، غير زوجي اللي لسه برفح، لأنه يحمل الجنسية الفلسطينية فقط"، فالإجراءات تُعدّ أسهل بالنسبة للفلسطينيين حاملي الجنسيات الأخرى، كما تذكر مريم.
وأكدت منظمة الأمم المتحدة، في تقارير نشرتها نهاية مارس الماضي، أن القتال في خان يونس ومنطقة دير البلح بوسط البلاد دفع عشرات الآلاف من الأشخاص إلى الفرار إلى منطقة رفح الجنوبية، حيث يعيش أكثر من مليون شخص "في منطقة مكتظة للغاية".
وصلت مريم وأطفالها مصر، نهاية مارس الماضي، تاركة جزء من قلبها في غزة ومع زوجها، وتحكي عن أولى خطواتها في أرض مصر بعد العبور، تقول بلهجتها الفلسطينية: "أول ما شوفت الكهرباء عيوني وجعتني وصرنا نُفرك بعيوننا من الكهرباء، لأن لست شهور ما فيه ضوّ كهرباء، كان احساسًا غريبًا ما صدّقنا حالنا إننا ضلّينا عايشين، وبالصدفة كنا بالقرب من المطار ومرّت طيارة، ابني صار يبكي ويقول (طاخ طاخ)، يعني هيضربوا علينا، مُو مستوعب إن فيه طيارة لاستخدام تاني غير القصف".
"100% من أطفال غزة يحتاجون لدعم الصحة العقلية والدعم النفسي والاجتماعي، فندوب هذه الحرب ليست جسدية فقط".. بهذا التصريح شرحت "تيس إنجرام"، المتحدثة باسم اليونيسف-منظمة الأمم المتحدة للطفولة، الصدمة النفسية التي يمر به ابن "مريم" وكل أطفال غزة، في تقرير نُشر منتصف أبريل الماضي.
بعد وصول مريم إلى مصر، والاستقرار في منطقة الشروق بالقاهرة، لأنها المنطقة التي وجدت بها مساعدة ودعم من عدد من الفلسطينيين المقيمين من سنوات الذين يعرفون سماسرة العقارات بالمنطقة من سنوات، فرغم سعر الإيجار المرتفع بالنسبة لها وهو 7 آلاف جنيه، لكنها تشعر بالأمان بسبب تواجد الفلسطينيين، وأفراد الأمن المتواجدين في محيط المنزل.
تجلس مريم في شقة برفقة أطفالها، وخمسة من أفراد عائلتها تمكنوا من الوصول إلى مصر أيضًا، ويتقسّم الإيجار الشهري بينهم، فتدفع مريم نصف الإيجار، أي نحو 3500 جنيه، وسردت "قررت التفكير في حل يوفر لي ولأولادي دخل مادي لمستلزمات المعيشة ودفع الإيجار، على أمل أن يساعدني في توفير مال لنقل زوجي للقاهرة حين وصوله مصر".
ورغم أن المقابل المادي للإيجار كبير على امكانياتها الحالية، خاصة مع خسارتهم كل ممتلكاتهم وأموالهم في القصف، افتتحت مريم مشروع أرض غزة االمُسمى باللغة الإنجليزية "Earth Gaza"، وهو مشروع بيع طعام منزلي فلسطيني، وتقدم مريم في مشروعها، المقلوبة الفلسطينية والمسخن، والمنسف والمناقيش، إلى جانب المخللات والحلوى الفلسطينية.
تُعدّ مريم الوجبات فقط في حال وصول طلبات من الزبائن، لأنها لا تمتلك رأس مال لتوفير المواد الخام بشكل دائم، التي تحصل عليها من الأسواق المحيطة بالشروق، لكنها لا تستطيع توفيرها بسعر الجملة لكونها لا تشتري بكميات كبيرة، بينما يتراوح سعر الأطباق بين 150 إلى 400 جنيه، باختلاف أسعار الخامات.
لا تتواصل مريم مع زوجها يوميًا، بسبب انقطاع الإنترنت لفترات طويلة، وبعد أيام تحصل على رسالة سريعة منه فحسب، تحكي عن فحوى الرسالة "يطمني أنه مازال حيًا، لكن بقدرش أسمع صوته ولا أحكي معه"، لكنها تحيّنت فرصة مناسبة لتُرسل له صورة أولاده وهم يُساعدوها في صناعة طلب لأحد الزبائن، فهم الأيدي العاملة وأول الداعمين لمشروعها.
لا تتمنى مريم سوى عودة زوجها ولمّ شمل أسرتها، كما تحلُم بعودة أطفالها إلى المدارس، فيكفي فواتهم لعام دراسي كامل، وتُكمل مريم بصوت باكي أمنياتها البسيطة "بحلم إن مشروعي يكبر ويبقى دخل ثابت لي ولأولادي وزوجي، ونبدأ حياة جديدة بأمان بعيد عن الحرب، وبلدي ترجع ونعمل فعاليات مِتل اللي بمصر، وأكون مشاركة فيها بمشروعي".