"اوعي تتأخري ومتلحقيش آخر مترو.. اركبي في عربية السيدات"
كان الوقت متأخرًا، مازلت في شوارع جاردن سيتي، أتجه بخطى ثابتة نحو محطة مترو "أنور السادات" الواقعة بميدان التحرير، أُسرع في حركتي حتى لا يفوتني آخر قطار، خلال الطريق شعرت برجلين يسيران خلفي، لم أُعرهما انتباه، ثم اختفوا فجأة في منتصف الطريق.
ركبت المترو أخيرا، شهيق وزفير وشعور بالراحة، فآخر رحلة لم تفتني في نهاية المطاف، لكن تلك الراحة لم تدم، شاهدت نفس الرجلين معي في نفس عربة المترو، ولسوء حظي، كان الوقت متأخرًا، لم يكن في العربة غير مسن، وفتاة في عمري، متفرقين على المقاعد؛ إلا أن الرجلين كانا في المقعد الذي أمامي.
تعاملت كأن الأمر طبيعي، لا يستطيعا فعل شئ، حتى بدأ أحدهما يتحسس عضوه الذكري بفرحة ومتعة، وهو ينظر لي ولجسدي، استمر في ذلك، ثم غير مكانه وجلس بجانبي، كنت أشعر بالرعب، لكن كل ما كان يدور في رأسي هو أنه قد يكون تحت تأثير مخدر، وقد يؤذيني، سأبقى صامتة، لن يقوم بالمزيد.
بعد مرور أول محطة لم أستطع تحمل هذا الرعب، نزلت من المترو، حتى أقوم بتغيير العربة ولاستقل التي بجانبها، لكنهم نزلوا معي أيضًا، تحركت أسرع للعربة الأخري، ومازالوا خلفي، ركبت العربة، لكن أخيرًا رأيتهم خارجها، نظرت إليهم من زجاج المترو، وأنا أشعر برعب وتوتر، حتى بعد أن تركوني.
توقفت -نيرة- عن حكي تجربتها وتعرضها للتحرش والملاحقة في مترو الأنفاق، بعد أن تذكرت كافة التفاصيل التي مرت عليها في ليلة كئيبة مرعبة من ليالي -القاهرة- حاضنة مترو الأنفاق والذي تم التحرش بها فيه فصارت تمقته وتكرهه ولكنها مازالت مجبرة على أن تستقله في مشاويرها المختلفة لتوفيره للوقت والمال أيضا في نفس الوقت ولكنه لا يوفر لها الحماية الجسدية ضد من يقتحمون حدود حرية جسدها.
يعتقد أغلب سكان القاهرة الكبرى أن مترو الأنفاق "مواصلة آمنة"، وأنه منزه عن قصص التحرش لتخصيصه عربيتين للسيدات فقط، من أصل 9 عربات، إحداهما تصبح مشتركة يوميا بعد التاسعة مساءً.
لايزال شعور الخوف يمتلك "نيرة" حتى الآن كلما تذكرت الواقعة، فتكمل بصوت منخفض: "لما حكيت لصحابي قالولى إزاي متصوتيش أو ضربتيهم؟"، ربما كان لابد أن أفعل هذا ولكن المفاجأة شلت تفكيري.. "على حد تعبيرها.
تعتدل في جلستها ويعلو صوتها قليلا ويكتسي ببعض الثقة وهي تخبرنا: "كنت محظوظة جدًا بمحيط واعي بالست وحقوقها، وده ساعدني إني تاني مرة اتعرضت فيها للتحرش، اتكلمت وأخذت حقي"، تظهر الثقة في لغة جسدها وهي تتحدث عن حقها الغير مهدر هذه المرة، لتكمل لنا: "أكتر شئ بيصدمني هو وقاحة المتحرش نفسه، جرأته، إصراره، عنفه في بعض الوقت، لساني بيتربط ومش بكون عارفة أتكلم، ازاي بيدي نفسه الحق لنفسه في أنه يلمس جسمي".
تدرس "نيرة" في جامعة عين شمس، لكنها تعيش مع أهلها في القليوبية، ولا تستطيع الاستقلال والعيش في القاهرة، بسبب رفض أهلها، فتركب المترو يوميًا في طريقها من وإلى القاهرة، حتى تصل إلى "الميكروباص" الذي يكمل طريقها إلى قريتها.
ينخفض صوت "نيرة" مرة أخرى وترتسم على ملامحها الخوف والقلق: "مفيش تعافي تام من اللي حصل.. أنا طول الوقت خايفة، خايفة اتخطف في الشارع خايفة حد يغتصبني"، تعبر عن مخاوفها بحيرة شخصية، لا تعلم لماذا يحدث هذا؟ ومتى ينتهي التحرش؟"
تنتزع نفسها من الأسئلة لتخبرنا بإبتسامة بسيطة: "لكن في تطور، من مرحلة إنى خايفة أتكلم وأقول إنه بيتم التحرش بي أو أعلي صوتي وأفضح المتحرش، لمرحلة أني مدركة إن ده حقي، دي نقطة تحول كبيرة خاصة بوعي لوجودي وحقوقي".
تخبرنا الأرقام الرسمية أن مترو الأنفاق مسؤول يوميا عن نقل آلاف المواطنين المصريين (نساء- رجال - أطفال)، فالمترو ينقل بشكل يومي ٢.٥ مليون راكب، حسب بيان الشركة المصرية لإدارة وتشغيل مترو الأنفاق في أبريل ٢٠٢٠، الذي نقلته بعض وسائل الإعلام، لذلك وقت خروج المدارس والموظفين يصبح الزحام هو الشيء الطبيعي في الفترة الصباحية، في حين يكون خال من الركاب في الفترات المسائية المتأخرة.
في مكان آخر، وعلى رصيف مختلف لمرفق "مترو الأنفاق" كان "محمود" يستعد أن يستقل المترو من محطة عزبة النخل حيث يسكن، إلى محطة حلمية الزيتون التي تقع فيها مدرسته، يحمل حقيبة المدرسة ويستعد ليومه، كان في السنة الأولى بالمرحلة الإعدادية، منذ سبع سنوات ولكنه مازال يتذكر هذا اليوم جيدا ويخشى تفاصيله التي تخطاها بصعوبة، كان المترو مزدحم كعادة كل يوم، اعتاد هو على عدم وجود مساحة بينه وبين باقي الركاب، فهم يحيطونه، حتى أنه أحيانًا لا يستطيع أن يحرك يده بسبب الزحام، تلك طبائع الأمور داخل المترو، الوقوف بسكون تام بينما الأجساد متلاحمة.
شعر بيد تتسلل ببطئ من خلفه، تلمس مؤخرته، انتفض، ارتعب، لم يفهم ماذا يحدث، هل هي دون قصد؟، ولكن الاستمرار في ممارسة فعل التحرش أكد له أنه ليس أمام فعل لا إرادي وإنما فعل مدروس ومخطط له مسبقا ، شعور التوتر والخوف يزيد بداخل محمود، لم يستطع التحرك بجسده بسبب الزحام، لكن قام بلف رأسه لينظر إلي المتحرش.
يحكي بابتسامة باهتة: "كان إنسان عادي خالص، موظف ثلاثيني أو أربعيني بشنب، كنت متوقع إني لما أبص هلاقي شخص شرير، عنده أنياب ومخالب، لكن ده اللي اكتشفته بعدين إن المتحرش مش هيبقى ليه شكل معين، هو ممكن يكون الشخص اللي واقف جنبك، لما بصيت له كان باصص قدامه ولا كأنه كان بيعمل حاجة، بصعوبة اتحركت من مكاني لحد ما نزلت محطة المدرسة وأنا واقف خايف ومرعوب".
لم تكن هذه المرة الأولى لمحمود، تعرض للتحرش في المترو مرة أخرى، ولكن بعد سنتين، كان في الصف الثالث الإعدادي، في نفس الرحلة اليومية للمدرسة، في نفس الزحام والمتحرش يلمس نفس المكان، المختلف هو أن المتحرش يرتدي شنطة كتف، ويخبئ يده تحتها، "وحسيت لما حصل كده أن هل المفروض ده يكون شيء أتعود أنه بيحصل؟ المفروض أتأقلم عليه؟، أحضر استراتيجيات للدفاع مثلاً؟ الغريب إني لما بصيت له فضل حاطط ايده، كان باصص للأفق كده كأنه يتأمل، اتحركت وغيرت مكاني وفضل هو باصص في الأفق ولا كأن في حاجة حصلت".
يبلغ محمود اليوم 19 عامًا، ومازال يستخدم المترو بشكل يومي للذهاب إلى جامعته، وأحيانًا يستخدم مواصلات أخري، لكنه نضج اليوم بفعل السن والتجربة فيقول "طول الوقت في المترو عندي قلق إن ده هيحصل تاني، بشك دائمًا ومش بدي الأمان لأي شخص، خصوصًا لأنهم كان شكلهم عادي أوي، دايمًا بفضل أبص حواليا، لما حصلي تحرش كنت ساعتها فاكر إن المترو هو الكون كله، مكنتش عارف إني ممكن أستخدم مواصلات تانية".
أصبحت محطات المترو موجودة في أغلب أنحاء القاهرة، تحديدًا بعد المرحلة الثانية من تحديثات الخط التالث التي تمت في أغسطس٢٠٢٠، والتي تم فيها إنشاء محطات بمنطقة جسر السويس والمناطق المجاورة، وأيضاً تحديث عربات مترو الخط الأول، والذي زاد ذلك من كونه خيار جيد للابتعاد عن ضوضاء الشارع وزحمة السيارات، بالإضافة أنه "المواصلة" التي تناسب الطبقة المتوسطة والموظفين مقارنة بباقي الخيارات المتاحة.
مترو الأنفاق هو المواصلة الوحيدة في القاهرة التي تقدم تسهيلات لمستخدميها، فهي تقدم اشتراكات لمدة ٣ شهور بأسعار رمزية، لطلاب المدارس والجامعات وذوي الإعاقة وكبار السن، وبالنسبة للتذاكر تكون بنصف سعرها لكبار السن، وتكون بخمسين قرشاً لذوي الإعاقة، كما يوجد به محطات للجامعات مثل محطة جامعة حلوان في الخط الأول، ومحطة جامعة القاهرة بالخط الثاني، ومحطة كلية البنات والعباسية بالخط الثالث الخاصين بجامعة عين شمس.
مستخدمو مترو الأنفاق ليسوا فقط سكان القاهرة، بل أحيانًا يكون بينهم "زوار" القاهرة من المحافظات الأخرى..
كانت "ابتسام" في زيارة إلى القاهرة مع أسرتها، قرروا استخدام "مترو الأنفاق"، تفرقوا في زحام المترو، لكنهم كانوا في نفس العربة، كانت ابتسام قد صار عمرها 16 عام وقتها، وتستطيع أن تتعامل مع الزحام، بدون أن تتحرك من مكانها، ولكنها شعرت بجسد يقترب منها بشدة وعن قصد، ويد تتسلل لتلامس منطقتها الحميمية.
تحكي ابتسام "وقتها ماكنتش أعرف يعني إيه تحرش، لكن كنت خايفة جدًا ومشلولة، حاولت أتحرك بس المترو كان زحمة، نزلت المحطة مع أهلي مقولتلهمش حاجة، لكن لقيته نزل ورايا، رغم وجود أهلي وفضل ماشي ورايا ومراقبني لحد ماوصلنا البيت".
بعد 14 عام، مازالت تتلمس ابتسام أثر ما تعرضت له، فتقول "الموقف سايب جوايا خوف من التجمعات، لدرجة أن ممكن يجيلي Panic attack (نوبة ذعر) لو فضلت في مكان زحمة فترة"، مع محاولاتها المختلفة لنسيان الأمر كله إلا أنها مازالت لا تستطيع وتشعر بالضيق كلما تذكرته.
انتقالًا إلى محطة حدائق حلوان، حيث يستقل "كريم" الخط الأول من المترو كل صباح، ثم يغير إلى الخط الثاني للوصول لمحطة الدقي، ووسط الزحام المعتاد، وقفت بجانبه فتاة، حاول أن يعطيها مساحتها رغم الزحام لعدم مضايقتها، لكنها كانت تقترب منه أكثر، حتى صارت تلمس عضوه الذكري بيديها، يروي كريم ملامحها باندهاش "كانت بنت عشرينية شكلها نضيف، وقفت بجنب ناحيتى ووشها للباب، لمستني، واستغلت أن مفيش حد هياخد باله علشان الزحمة"
يكمل "أنا حسيت بصدمة إزاي بنت تعمل كده؟، لسه بفكر آخذ رد فعل، لكن كان المترو وصل المحطة اللي هنزل فيها، أظن أني تعافيت من اللي حصل، لكن أحيانًا لما بدخل مترو الخط الثاني بفتكر اللي حصل، وبتأهب لأخذ أي رد فعل لأي حد هيقرب منى"، "كمان كل ما بشوف بوست على الفيسبوك عن التحرش بفتكر، تحديدًا لما بيكون كل الناس بتشتم في الرجالة بشكل عام، مش في المتحرشين، وكأن مفيش جانب تاني، وأن المتحرش ممكن يكون راجل أو ست".
تختلف الفترة التي يحتاجها ضحايا التحرش للتعافي، وأحيانًا قد لا يتعافون، وضحايا التحرش في المترو، هم ضحايا من نوع مختلف، فهم بشكل يومي يزورون المكان الذي تعرضوا فيه لذلك الحادث المليء بالألم والخوف، وقد يتعرضوا له عدة مرات أخري.
كل الأسماء التي ذكرت في موضوع هي أسماء مستعارة، حفاظًا على هوية أصحاب القصص وسلامتهم الشخصية.