في العام 2019، اخترق هدوء قرية جزيرة شندويل صوت استغاثات أسرة أحد الشباب من أبناء القرية، التابعة لمركز طما بمحافظة سوهاج، وطوال أسابيع، لم يكن لسكان القرية حديثًا سوى غرق أحد شبابها ومحاولات الجميع في تضميد جراح أسرته، والاستجابة لاستغاثتهم في الوصول لأحد غواصي النيل، لا لإنقاذ ابنهم من الغرق، بل لانتشال جثمانه من النيل حتى يستطيعوا إتمام إجراءات دفنه.
توصل بعض الأهالي لغواصين من محافظة أسوان وأسيوط، فيما لم يفلح بحثهم في الوصول لغواص بسوهاج، من بين هؤلاء كان حمادة دقة، صاحب الـ35 عام، والذي دفعه الحادث لخوض تد ريب سيُغيّر مسار حياته، وحياة آخرين من سكان قريته وقرى آخرى يتكرر فقدان أبنائها في مياه النيل.
بدأت رحلة حمادة منذ خمسة أعوام، تحول خلالها لغواص محترف، ومُنتشل للجثامين، ويقول إنه بدأ تعلم أساسيات الغوص على يد أحمد صابر، ابن محافظة أسيوط، والذي تعرف عليه الشاب عبر مجموعة "غواصي الخير" على تطبيق "واتساب".
ويقول حمادة "عندما وجدته يعمل على انتشال الجثامين دون مقابل أعجبت بالفكرة، وتواصلت معه لكي أتعلم الغطس، وفي البداية كنت أعمل كمساعد له، أساعده فى حمل الأدوات أثناء مسح مياه النيل للبحث عن جثامين".
يتجمّع هؤلاء من مختلف محافظات مصر عبر مجموعة تواصل على تطبيق الـ"واتس آب"، ومن خلال المجموعة ينشرون حالات الغرق في المحافظات، حتى يتمكّن من لديه القدرة في المساعدة والذهاب للبحث عن الجثمان سريعًا.
لم يقتصر عمل حمادة، على محافظة سوهاج فقط، بل يقول "ذهبت وبحثت عن جثامين غارقة في جميع محافظات الصعيد".
ولا يحصل حمادة أي مقابل من انتشال الجثامين، إذ يكفيه دعاء أهل المتوفي له، ويستكمل قائلًا "انتشال الجثمان شيء يُريح قلوب أهل الغريق"، ويُحزنه أن بعض الغواصين يطلبون مبالغ مالية تتراوح ما بين 7000 إلى 10000 جنيهًا من أهل المتوفي ليبدأوا البحث عن الجثمان، ما يعتبره استغلال للحالة التي يكون عليها أهل المتوفي.
يعمل حمادة منذ تعلم الغطس في قطاع السياحة، إذ وصل لدرجة مساعد مدرب غطس، وتحديدًا في إحدى شركات رجلات الغطس بالغردقة، وحين يعود لقريته مرة أخرى في إجازات عمله لا يتردد في التطوع للبحث عن الجثامين، مُوضحًا "نختلف عن غواصين الإنقاذ النهري حيث يبحثون لمدة أقصاها يومين بعد تلقي بلاغ بغرق أحد الأشخاص، ونعمل بعدهم، في حال لم يتمكنوا من العثور على الجثمان".
ويختلف غواصي الإنقاذ النهري عنهم في وصولهم البلاغ عن طريق الشرطة، فيما يتشابهون في كونهم لا يتلقون مقابل مادي أيضًا.
وعن خطوات العمل يقول حمادة "أول ما أفعله حين تلقي البلاغ، دراسة محضر الشرطة، إذ تأتى إلينا صور من المحضر من خلال أهل الغريق، ونتحدث مع شهود عيان لمعرفة المكان الذي سقط فيه الشخص الغارق، وأبدأ في تحديد كيلومترات البحث مُراعيًا سرعة واتجاه تيار المياه في النيل".
ولا يُمكن أن يبدأ هو قبل عمل الإنقاذ النهري، ويُضيف حمادة "الحقيقة أن هيئة الإنقاذ النهري تساعدنا من حيث مدّنا بالأكسجين الذي نملأ به تانك الهواء، وهذا يكون بشكل ودى لأنهم يقدرون مدى أهمية ما نفعله".
لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فقد يتعرض حمادة وزملائه إلى المسائلة القانونية، فالبحث عن الجثمان قبل الإنقاذ النهري يعرضه للقانون، كذلك في حالة وجود شبهة جنائية بالجثمان.
ووفقًا لحمادة فالغواصين المتطوعين لا يواجهون معوقات من ناحية الغطس في مياه النيل، وعلق قائلًا "لأن الإنقاذ النهرى يعلم أننا مدربين وأيضًا يُقدّر الدور الذي نقوم به من مساعدة أهل الغريق للحصول على الجثمان".
حصل حمادة على نجمتين في الغطس من مركز "بادي"بالغردقة، وهو مركز معتمد لتعليم الغوص وله فروع في المدن الساحلية، فيما بلغ تصنيفه مساعد مدرب غوص.
يقضي حمادة عادة أكثر من نصف شهر في بلدته، خلال تلك الفترة يُلبّي أي دعوة للمساعدة فى الحصول على جثمان غارق، مُضيفًا أن عمله في السياحة عمومًا يكون مُتمركزًا أكثر في فترات الصيف.
رغم الصعوبات التي يقابلها حمادة خلال عملية البحث إلا أنه لا يشعر بها "أي شيء أهون من القلوب التي يعتصرها الحزن على فراق أبنائهم دون دفنهم، ودائمًا وأنا تحت المياه لا أفكر في شيء سوى البحث عن الجثمان واستخراجه إلى أهل الغريق حتى يقوم بدفنها".
من ناحية أخرى أكد حمادة أن في بعض الاحيان يواجه انتقادات من أهل الغريق، حيث علق قائلًا "البعض يقول إنك لم تبحث بشكل أكبر، والبعض يرى أنك إذا بحثت في هذه المنطقة سوف تحصل على الجثمان، أنا دائمًا بكون مُقدر ومُدرك مدى الحزن الذي هم فيه في هذه اللحظات".
ويكمل حمادة أن اليأس أحيانًا يجعل أهالي الغريق لأفعال غير صحيح " في بعض الأحيان يذهب أهالي الغريق إلى أشخاص دجالين حتى يدلهم على المكان المتواجد فيه الجثمان داخل الماء، لكن دائمًا نقول للناس إن هذا غير واقعي ولن يفيدهم في شيء".
ما يحتاجه حمادة للغطس يبدأ بـ"تانك هواء" مشحون 200 بار، ويقول: "يكفيني هذا التانك للغطس لمدة ساعتين تقريبا"، ويستخدم أيضًا منظم هواء للتنفس وثقل رصاص، وهو وزن من مادة الرصاص يُحاط بوسط جسد الغواص ليساعده في الثبات والغطس تحت الماء، ويحدد حسب وزن الغواص، والعمق الذي يستهدفه في المياه.
وعن الأوقات الأمثل للبحث عن الجثمان، قال حمادة: "من 8:00 صباحًا،حتى الساعة الثانية ظهرًا، لأننا يجب أن نستغل وجود الشمس التي تُعطيني رؤية جيدة في المياه، وإذا غربت الشمس وأردت أن أغطس ليلًا اصطحب كشافًا معي داخل المياء حتى يساعدني في الرؤية تحت المياه".
وبعد انتشال الجثمان من النهر لا يسمح الغواصين لأحد أن يقترب منه، ويقومون بتغطيته، مُنتظرين الإسعاف حتى تصطحبه للمستشفى.
واجه حمادة العديد من الصعوبات خلال عمليات البحث، إلا أن أطول حالة بحث كانت عن جثمان طفل عمره 14 عامًا، إذ قضى حمادة نحو أربعة أيام في عملية الغوص، وبالفعل تمكّن من الحصول على الجثمان.