على مدار سنوات؛ اكتسب متحف الفنان التشكيلي حسن الشرق الموجود في المنيا شهرة واسعة بين محبي الفنون والتراث الشعبي، فيُقبل الجمهور على زيارة المتحف لمشاهدة لوحات حسن المختلفة وإذا حالفهم الحظ يقابلوا الفنان المصري ذو الشهرة العالمية بنفسه، فبالرغم من جميع البلاد التي زارها لعرض لوحاته أو استقبال مشاركاته كان يتمسك دائمًا بالعودة إلى قريته.
في 23 من شهر نوفمبر الماضي، وعن عمر يناهز 73 عامًا، توفى حسن الشرق، تاركًا متحفه الذي أسسه منذ 25 عامًا داخل قرية زاوية سلطان في مدينة المنيا لأبناؤه الثلاثة، موصيًا أن يظل مفتوحًا يستقبل الزوار مجانًا كما كان يفعل وهو حي.
بعدما سألني الكثير من الأصدقاء: "كيف لم تزر متحف حسن الشرق حتى الآن؟" قررت زيارته أخيرًا بصحبة صديقي أحمد.
من موقف المنيا، ارتدنا السيارة المتجهة إلى قرية زاوية سلطان التي تبعد عن المدينة بنحو 7 كيلو متر وتقع على الضفة الشرقية للنيل، فزيارة القرية نفسها بمثابة جولة في التاريخ لما تضمه من مقابر أثرية إسلامية وما تشتهر به من القباب، وكأنها لوحة فنية تراها بمجرد الوصول إلى أطراف القرية، وبالتالي كان لابد أن يخرج منها ليس فنانًا واحدًا بل فنانين كثر.
يقع متحف حسن الشرق على مساحة تقارب الـ 1800 متر من القرية، خصصها حسن بنفسه كي يؤسس عليها متحفه، فقسمها إلى 8 قاعات، 4 لعرض لوحاته، و2 لعرض اللوحات الخارجية التي قال عنها في إحدى حواراته السابقة إنه حينما كان يبادل لوحاته مقابل لوحات فنانين آخرين، هو يعرض لوحاتهم عنده وهم يعرضون لوحاته لديهم.
عندما وصلنا إلى المتحف قابلنا زين العابدين، الابن الأصغر لحسن الشرق والمشهور بزين الشرق، وداخل المتحف رأينا مجموعة من الشباب يتجولون بين أرجاؤه، لم يكونوا سياحًا بل مصريين، وكنت أعتقد أن المتاحف لا تلقى إقبالًا، ولكن صديق لي من القرية قال إن متحف الشرق يستقبل زيارات كثيرة.
بدا التأثر على وجه زين، فرحيل والده كان كالجبل الذي انهدم على رأسه، بحسب وصفه، فهو لم يكن مجرد والده، بل كان صديقه المقرب الذي يرافقه معظم الوقت.
تشربت نفس الشرق حب قريته في المنيا، وانعكس هذا أيضًا على أولاده، فيقول زين العابدين: "رغم الشهرة التي اكتسبها والدي وسفره الدائم لحضور الفعاليات هنا وهناك، إلا أن كل من يقابله كان يلمس حبه لقريته وانتماؤه لها".
يحكي زين أن والده استقبل أكثر من عرض لنقل مكونات المتحف إلى القاهرة أو الأقصر لكنه كان يرفض، فهو أصرّ أن يظل في وسط البيئة التي اكتسب منها حسه الفني وعبّر عنها في لوحاته، فيقول ابنه: "كان دايمًا يقول زاوية سلطان هي اللي علمتني".
كثير من وسائل الإعلام المحلية والدولية جاءت إلى هنا احتفاءا بمكونات المتحف وتميز لوحاته، وسردت قصة الفنان الذي كاد أن يكون جزارًا خلفًا لمهنة والده، لولا أن سحر القرية وجمال طبيعتها ومكوناتها الأثرية جعلوه يحلم وهو متيقظ ويعبّر عن هذا بكل ما استطاعت أن تصل إليه يديه من أدوات؛ بداية من الطباشير وحتى توابل العطارة.
واستمر إبداع حسن الشرق حتى زارت القرية المستشرقة الألمانية "أورز لاسورنج" عام 1985، وشاهدت أعماله فانبهرت بها ونقلت صداها إلى القاهرة ومنها إلى خارج مصر، لكنه كلما سافر كان يعود مجددًا إلى قريته حيث عاش فيها طوال حياته.
جذور الشرق العميقة بينه وبين قريته ظاهرة بوضوح في أعماله، ولكن بالحديث عنه مع زين وأهالي القرية لم تكن علاقته بها مجرد الفن، فكان لعلاقتهما جانبًا آخر وهو عمله في القرية كقاض عرفي يدعوه أهلها لحل المنازعات بينهم، فيقول ابنه: "كان لوالدي علاقات قوية مع الجميع".
أوصى الشرق ابنه زين وإخوته بأن يظل المتحف تحت إدارتهم مفتوحًا للجميع وأن يتوارثوه جيلًا بعد جيل، فيوضح زين: "كان والدي يقضي معظم وقته في القرية داخل المتحف أو متجولًا في شوارعها، وكان يستقبل أصدقاؤه هنا، بجانب الأطفال من هواة الرسم ليشجعهم وينصحهم بممارسته، فهو خصص قاعة خارجية لتعليم الأطفال الرسم وعرض لوحاتهم فيها".
"لوحاتي حبيباتي"، هكذا كان يردد الشرق دومًا أمام أبناؤه، حب للفن انتقل لهم أيضًا، تلمسه من حديثك مع زين، حب يمتزج بفخر بوالده، الذي رسم لوحات تظهر أصالة القرية وهويتها، وتفاصيل الريف والمعمار والحياة العادية لسكانها وتراثهم الشعبيّ، ولا يغيب هذا عن أهل القرية الذين تلمس منهم أيضًا الحزن على فراق الفنان الذي ظل وسطهم طوال حياته.
رحل الشرق، وبقى متحفه شاهدًا على تاريخ وثقه كاملًا في لوحاته، يتجول فيه كل من يزور المتحف، حتى وإن كان متأخرًا مثلي.