حين شاهد خالد من النافذة تجمهر الشباب أسفل العقار، أيقن أن المسافة إلى نهايته لا يفصلها إلا بضعة سلالم، لينتهي به الأمر مسحولًا على الطريق أو مكسور العظام على يد أحدًا منهم.
عاد للجلوس على الكنبة مطأطئ الرأس استهجانًا لا خزيًا، تشابكت أصابع يده المرتجفة على رأسه، كان مرعوبًا حقًا، يقف ويجلس ويطوف بين أركان الشقة التي باتت كأرض واسعة في العراء فلا مخبأ يلجأ إليه، تمنى أن يرفع رأسه ليجد نفسه في مشهد غير هذا.
كانت هذه المرة الثانية التي يتجمهر فيها الناس بهذه الصورة أمام بيت من بيوت المنطقة، الأولى لم تقل فجاعة، فعند غرق ابن أم شاذلي توافد أهالي المنطقة على بيتها على غير المعتاد لمواساتها على رحيل الفقيد.
كم حذرته أمه من الذهاب إلى هناك لكنه كبر وأفلت زمام سلطتها عليه، حرارة شمس هذا اليوم كانت أكبر من طلبها ذهب ليطفئ نار الصيف، ألقى بجسده في مياه النيل التيار خانه، فاختفى بين صيحات أصدقائه التي كانت أخر ما سمع، ولا أستطيع الجزم بأنه سمعهم أم أن رهبة الموقف جعلته لا يسمع سوى صوت نفسه تستغيث طالبة النجاة.
لم يمر عامين على وفاة أبيه حتى عاد الصراخ والعويل إلى بيت أم شاذلي، دائمًا كان منزلها مغلق على أصحابه لا يستطيع أحد أن يعرف عما يدور بداخله؛ بالرغم من تطفلها على كل بيت من بيوت المنطقة وقدرتها على معرفة أسراره، كانت تجد في معرفتها بكل ما يدور بمثابة السلاح الذي يخرج عند اللزوم، وليس من الغريب أن تتعدد الخلافات بينها وبين بيوت المنطقة وأكثرها مع عم "عرفة".
كانت العلاقة بينهم مثل علاقتها بباقي الجيران، مياه تعكرها الشوائب، كانت تحرص على معرفة خبايا هذا المنزل الأقرب إليها في ما يملكه من أموال وعقارات، كان عرفة الوحيد الذي شعرت أنه ندًا له.
واشتد الخلاف عندما عرض صاحب البيت المواجه لبيتها للبيع، سعت "أم شاذلي" لشرائه لتسيطر على الشارع الجانبي الذي تقطن فيه، أما عم عرفة فكانت البيوت والأراضي مثارًا للتفاخر بين الناس، حيث استطاع ضم البيت إلى بيوته، من وقتها اشتد الغيظ لدى "أم شاذلي"، واستغلت كل
فرصة للتشاجر معه، مثل انزعاجها من صوت ضجيج سيارات البضاعة التي تنقل الأعلاف التي يتاجر بها، أو روث الخيول الذي يتناثر على الطريق.
رغم الفجيعة والألم والفقد فإن ذلك لم يمنعها من الاستمرار في افتعال الخلافات معه، ما زاد الطين بلة هو تأجيره الشقة المواجهة لمنزل "أم شاذلي" لخالد الذي كان شرارة الاشتعال.
عاب البعض على “عرفة” ما فعله ووصل بهم الأمر بتوفير مستأجر أخر، لكن ماذا الذي يدفع عائلة تسكن المنطقة لدفع الأجر الذي يدفعه مهندس مغترب يعمل في شركة الغاز، هارب من سكن العمل المكتظ بالعمال، ذلك المهندس الذي لم يمارس فعلًا يغضب أحدًا.. الأموال ليست مهمة لعرفة؛ لكنه لا يقبل فرض رأي عليه من صغير إلى كبير المنطقة.
وللحق لا يرى أهل المنطقة خالد إلا مرتين وقت خروجه للعمل وعودته، وقد لا ينتبه أحد لرجوعه إلا عندما يناديه عم عرفة بأعلى صوت "بشمهندس خالد اتفضل"، يعتذر متعللًا بإجهاد العمل، قرر خالد منذ البداية ألا يبسط علاقته بالآخرين خاصة أن معادلة "شاب أعزب وغريب ويسكن بمفرده" يضعه في دائرة خطر، المرة الوحيدة التي خانه ذكائه فيها عندما فتح بابه لطفل في المنطقة اضطر لاستقباله خجلًا من صده.
في النافذة المواجهة لشقته لم يكن أحد قد صادفه، والحقيقة أنه كان يراقبها وهي أيضًا، وطالت وقفتها خلف النافذة تتابعه خلسة أثناء نشر غسيله، ولم تكن والدتها (أم شاذلي) هي فقط التي تراقبه لكن باختلاف الهدف، لم تفكر في لفت انتباهه مرة لم تبنِ أية آمال حول ذلك الأمر؛ فالعداوة بين أمها وساكني البيت بدأت قبل أن يسكنه أحد، والشيء الذي يغيظها عند البادرة الأولى منه لخطبتها تمسك والدتها بالرفض.
يُمكن أن نقول أن اجتنابه للناس وعزوته في وحدته أثارا غموض "أم شاذلي".. دارت كلماتها وألهبت خيال الجميع عن خالد الذي لا يعرف أحد أصله وفصله، اقتنع بعضهم برواية أم شاذلي، واقتنع البعض الآخر بروايات أخرى حتى نصبوا أنفسهم القاضي والجلاد وتجمهروا أسفل منزله منتظرين نزوله لتنفيذ الحكم، ولم يصبر البعض طرقوا الباب وكادوا أن يخترقوه.
ما تفتح يا…