تشبثت بحقيبتها جيدًا ثم اختفت وسط الزحام، يدخل ويخرج زائرو السوق برعاية الله وأمنه، ولا تتحمل هي الظروف وأن تكتشف فجأة سرقة نقودها أو هاتفها، لذا لا تمل من مراقبة أفعال الناس وحركاتهم غير المنظمة، ورغم ضيقها بالمعاملات القريبة إلا أن المواقف العابرة تكفيها للشعور بالونس.
تهاتفها والدتها لحثها على سرعة العودة:
• كلنا في انتظارك لمَ التأخير؟
فترد حبيبة باعتراض:
• لا يوجد مواصلات هل تريدينني أن أطير؟
تتوعدها الأم بالتأديب وتنتهي المكالمة.
كانت الليلة قد أعُدت على شرف ابن العم الذي يسبح اللهَ كل من يسمع خبر نجاته من الحادث، أغلبهم كان يتوقع نهايته وقالوا: "ده ميت ميت".
رغم تكاليف العمليات التي التهمت كل ما في جيب بيت عم "حبيبة" ووصلت إلى جيوب رجال العائلة، إلا أن زوجته اشترطت ذبح عجل وإقامة ليلة شكر لله بنجاة ولدهم.
وحين طلب العم مُهلة للخروج من أزمة الديون لاحقته الزوجة باتهامات البخل، حتى قرر باقي العائلة المشاركة بما يملكون، ليس خوفًا من زوجته بل اقتناعًا بضرورة التعجيل في إقامة الليلة.
من أقصى درجات السعادة إلى الحزن، عادت حبيبة إلى موقعها في السوق مجددًا؛ لشراء المعونة من الخضراوات واللحوم، حتى تلقت العائلة خبر موت الجد الكبير عقب ليلة النذر"الندر" بيوم واحد.
ومن المعتاد في تلك الظروف أن يلحق به جميع أفراد المنزل لتوديعه إلى مثواه الأخير في القرية التي عاش بها قرابة الثمانين عامًا، ورفض أن يتركها مثل باقي أبنائه.
ولا تذهب حبيبة إلى القرية إلا للشديد القوي، وبرغم الخُضرة والهواء الذي لا تنكر محبته إلا أن تلك الأجواء تُجدد في قلبها غصة، فرائحة الهواء النقي أصبحت تمتزج بشعور الخوف الذي لامسته هنا في كل مرة نشبت مشكلة بين أفراد عائلتها وأحد بيوت القرية.
كانت هذه هي المرة الأولى منذ زمن التي يخطو فيها أهالي القرية إلى بيتهم، اتخذت كل سيدة في البيت موقعها بعد تقسيم أدوار العمل من تقطيع اللحوم وخبز العيش لمن سيحضر العزاء، وبينما ينفطر قلب عائلة الجد عليه يتناول الحاضرون ما لذ وطاب من الطعام، وتستنكر "حبيبة" تلك العادة، لكن غسل الأواني وأكواب الشاي هو دورها في ذلك اليوم مع سرعة الأداء حتى يحصل الجميع على الشاي ساخنًا دون انتظار.
استوقفتها إحداهن بصوت خافت:
- أكواب أخرى لو سمحتي.
أعطتها حبيبة الأكواب دون رد، وانطوت على نفسها تفكر: هي فعلًا؟
كانت تتنقل في المنزل تحمل صواني الشاي، وتشارك في إعداد الطعام، وتتحدث مع نساء المنزل بود تسمح به طبيعة الموقف.
أخر مرة شاهدتها حبيبة في المنزل منذ سنوات طويلة، وهي تحمل عصا مقشة مستهدفة رأس إحدى نساء البيت، تمنت حبيبة لو أن الحظ قال كلمته وتدخل أحد لإنهاء المشكلة حتى لا تنضم إلى قائمة القطيعة لمنازل القرية.
كان أبنائها أخر أصدقاء تبقوا لحبيبة في القرية، في كل مرة يتشاجر أهل البيت مع بيت أخر بالقرية تفقد حبيبة واحدة من الصديقات، صارت وحيدة في القرية.
مرت سنوات الطفولة وقضت مرحلة المراهقة دون ونيس، ورغم أن جميعهم شاركوا في أداء واجب العزاء، لكن عندما بادرت إحداهن بإلقاء السلام ترددت حبيبة لحظة في التجاوب معها خوفًا من توبيخ إحدى نساء البيت لها، وبعد رد السلام والسؤال عن حال كل منهما عادا إلى مهامهما لإعداد الطعام، وعادت "حبيبة" لغسل الاكواب وهي تتعجب في داخلها قائلة: "الله يرحمه مات في الوقت الخطأ”.