شعاع نور قوي ربما اخترق الجدران، أصوات طرق عنيفة على أبواب موصدة منذ سنوات، ربما جاء الطعام إلى ذلك السجن النائي بأحد الأوطان العربية، اعتقدت أنه ربما تذكّرنا أحد، لكن المفاجأة كانت أكبر، أحدهم يصرخ فينا: «أنتم أحرار، اخرجوا واركضوا إلى الخارج».
رأيت من حولي يركضون نحو البوابة المفتوحة للزنزانة، حاولت إيقافهم بكل وسيلة معتقدًا أنه فخ، كان الصراخ يملأ السجن، حاولت الهرولة معهم، إلا أن قدمي التي بترت منها عشرة أصابع أثناء تعذيبي هنا اعاقتني، سقطت على الأرض حتى ساعدني أحدهم.
كان رجلٌ له وجهٌ مختلف عن الوجوه المعتادة هنا، كان شاحبًا وملطخًا بالتراب، ساعدني على الوقوف وقال بصوت حازم: «لا تخف، لقد انتهى كل شيء.. أنت حر الآن».
حر؟ كانت الكلمة كالصاعقة ومن حولي كان السجناء يتدافعون للخروج، بعضهم يبكي والآخر يصرخ بأسماء أسرته، تذكرت المرة السابقة حين فتحوا لنا الأبواب وأوهمونا بالحرية، ثم أطلقوا علينا سهامًا قاتلة من أجل التسلية والمتعة، وكأنهم في يوم ترفيهي يصطادون سربًا من الحيوانات، ووقتها سقط كثيرون ونجوت.
تذكرت أيضًا السجّان الذي أرغمني على أكل لحم صديقي بعدما أعدموه أمام عيني، لم أنسْ نظرات الموت في عينيه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.
سمعتُ حولي كلمات مثل: «سقط النظام»، بدأت أسير بخطوات مترددة خلف الرجل الذي ساعدني، نور الشمس الساطع أصاب عيني الوحيدة. كانت أصوات الصراخ والهتافات تتصاعد من الخارج، خرجت من البوابة الرئيسية للسجن وأنا أرتجف.
الهواء النقي كان ثقيلًا على رئتي الهزيلتين، عينيّ تملأها الدموع، لا بسبب الفرح، بل لأنني كنت عاجزًا عن فهم الواقع، رأيت رجالًا ونساء يحتضنون السجناء المحررين، وأطفالٌ يُلوّحون بالرايات.
أحد الثوار اقترب مني وسألني: «ما اسمك؟»، حاولت الرد إلا أن لساني المبتور لم يسعفني. نظرت إليه بعجز، ولم أجد إجابة.
تذكرت وقتها تلك اللحظة حين قطعوا لساني ليمنعوني من الصراخ، وكأنهم أرادوا سلب آخر ما يربطني بإنسانيتي.
اسمي؟ لم أعد أعرف.
لا أتذكر حتى سبب اعتقالي.
كل ما أعرفه هو أنني كنت هنا لسنوات طويلة، أنني كنت مجرد رقم.
الشيء الوحيد الذي استطعت تذكره هو لحظة تسابقي على الخيل مع أصدقائي في موطني، كنت أرى أمامي السهول الممتدة، وأشعر بالهواء يضرب وجهي بينما يعلو صوت ضحكاتنا ونحن نُحفّز خيولنا لتسبق الريح.
لكن تلك الصورة بدأت تتلاشى تدريجيًا حينما سُجنت لسنوات طويلة هنا. سقطت على ركبتيَّ، وبدأت بالبكاء، كان بكاءً كأنني أفرغتُ كل سنوات القهر دفعة واحدة، حاول المحيطين بي مواساتي، لكنني شعرت بغربة كبيرة.
الحرية التي كنت أحلم بها طوال حياتي أصبحت الآن حقيقية، لكنها بدت ثقيلة، وكأنها شيء أكبر من أن أدركه.
حينها فقط علمتُ أن السجن لم يكن مجرد جدران من الحجر والأقفال الحديدية، بل كان في داخلي، في ذاكرتي، في كل نُدبة على جسدي. ربما خرجت منه لكنه لم يخرج مني.