"آلة إعلامية كاذبة".. كيف نجحت إسرائيل في خلق "صورة مشوهة" عن غزة؟

تصميم: باسم حنيجل

على مدار عام من الاعتداءات الإجرامية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة وباقي الأراضي الفلسطينية، ظهر بشكل لافت تبني بعض وسائل الإعلام الغربية لروايات، يظهر زيفها أو تضليلها أو قصورها أو تحيزها فيما بعد، روايات تدعم طرفًا دون الآخر، تميل بشكل واضح إلى كل ما يسرده ويتبناه الاحتلال الاسرائيلي، حتى أنها تستخدم نفس مصطلحاته.

ورغم كشف العديد من التقارير إن وسائل التواصل الاجتماعي لم تكن طرفًا محايدًا في هذه المعركة وأنها انحازت بشكل واضح إلى الجانب الاسرائيلي، إلّا أن تكثيف النشر من جانب الفلسطينيين وكل من تعاطف معهم وأيد حقوقهم وجرّم الانتهاكات وحرب الإبادة الجماعية التي يتعرضون لها على مدار العام، كان يسمح بكشف هذا الزيف/ التضليل والانحياز.

ورغم أن سياسة نشر الأكاذيب وضخ سردية الاحتلال في خطاب المجتمعات الغربية والعربية أيضًا ليست سياسة قديمة وإنما هي جزء من معركة امتلاك السردية، إلا أنها كانت تظهر بوضوح شديد على مدار العام.

واحدة من أكبر الروايات الكاذبة، ظهرت بعد أيام من بدء عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023، إذ أشارت صحفية BBC "ليز دوسيه"، كبيرة المراسلين الدوليين في جنوب إسرائيل، في ردها على استفسار أحد القراء حول بناء حركة "حماس" للأنفاق،  بإقامتها تحت المستشفيات والمدارس في غزة. 

بعد تقرير دوسيه المنشور في 16 أكتوبر 2023 بيوم واحد، قصف الجيش الإسرائيلي مستشفى المعمداني في فجر 17 أكتوبر. اعتمدت دوسيه في تقريرها، على خريطة لغزة تعود لعام 2021، تحتوي على مكان الأنفاق من وزارة الدفاع الإسرائيلية كمصدر للمعلومة، دون الاستناد إلى مصادر محايدة. 

يشير الدكتور حسن سلامة، أستاذ العلاقات الدولية، أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تحظى بدعم غير محدود من بعض وسائل الإعلام الغربية في جريمة الإبادة الجماعية في غزة. وأضاف خلال مداخلة هاتفية عبر قناة إكسترا نيوز في أبريل الماضي، أن هناك آلة إعلامية تعمل بالتوازي مع آلة الحرب الإسرائيلية، تقدم ادعاءات وأكاذيب كثيرة تتعارض مع الواقع.

قطع رؤوس 40 طفل 

كان أبرز الأكاذيب التي ترددت على نطاق واسع من الداعمين للاحتلال الاسرائيلي هو ادّعاء قدّمته صحفية في قناة "آي 24" الإسرائيلية، قالت فيه عبر  تغطية مباشرة من مستوطنة "كفر عزة"، قطع المقاومة الفلسطينية لرؤوس 40 طفلًا في المكان؛ الادّعاء الذي جرى تداوله دون تأكيد، وساهم فيه رئيس الولايات المتحدة جو بايدن، عبر لقاء مباشر، مؤكدًا رؤيته لصور الأطفال. لكن زيف الادعاء أجبر البيت الأبيض إلى إصدار بيان ينفي فيه رؤية بايدن لصور الاطفال. 

يوضح الدكتور ياسر دهب، نائب رئيس الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا فرع أسوان، في حديثه لـ"عين الأسواني" مدى تعقيد تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الرأي العام ومشاعر الجماهير؛ فالتلاعب بالمعلومات، سواء عبر نشر الحقائق مع معلومات مغلوطة أو من خلال الإشاعات، يمكن أن يؤدي إلى تآكل الثقة في الأحداث الحقيقية، مشيرًا إلى وجود تكنيكات تهدف إلى تعكير المزاج ونشر الشائعات لتعزيز القلق، مما ينعكس سلبًا على الحالة النفسية للأفراد والمجتمعات.

ورغم دور التكنولوجيا في التغيير، لكن قد يستخدمها البعض في نشر المعلومات المغلوطة، في الوقت الذي لا يمتلك العديد من الأفراد دافع التفكير في أي معلومة يستقبلها دون تأكيد، لذلك يعد تثقيف المستخدمين لكيفية التعامل مع المعلومات والتأكد من صحتها أمرًا هامًا.

المنع يساوي بيئة إعلامية مضطربة 

تتداخل قضية نشر الأخبار الكاذبة بشكل وثيق مع قرار إسرائيل منع دخول المراسلين لتغطية الحرب، إذ تساهم حالة المنع تلك في خلق بيئة إعلامية مضطربة، مما يتيح فرصة التلاعب بالحقائق ونشر روايات مُوجّهة تتوافق مع أجندة معينة تؤثر على الوعي العام تجاه ما يحدث في غزة.

ترى أيرين خان، مقررة الأمم المتحدة في حوار نشره موقع الأمم المتحدة في مايو 2024، أن قرار إسرائيل بمنع أي وسيلة إعلام دولية بالدخول إلى غزة انتهاكًا لحرية التعبير وحق وسائل الإعلام في حالات الحرب، مشيرة إلى اعتماد قانون مؤخرًا يسمح بالحظر، تحاول السلطات الإسرائيلية فيه حظر قناة الجزيرة الآن، وهي وسيلة الإعلام الدولية الوحيدة التي تعمل في غزة.

وبينما تصف بعض المواقع الإخبارية الغربية حركة حماس إرهابية، رغم إلغاء المحكمة الابتدائية الأوروبية في لوكسمبورغ قرارًا بإدراج اسم حماس على قوائم الإرهاب عام 2019، في الوقت نفسه التي لم تُوصف فيه إسرائيل بهذا الوصف، رغم جرائم الابادة الجماعية التي تتخذها ضد سكان قطاع غزة.

ويشير تقرير نشره موقع نترسبت" لمتابعة قضايا الأمن القومي في يناير 2024، أن كل صحفي يعمل لدى شبكة "CNN" لتغطية إسرائيل وفلسطين يجب أن يقدم عمله للمراجعة قبل النشر إلى مكتب المؤسسة الإخبارية في القدس الذي يعمل تحت إشراف رقابة جيش الدفاع الإسرائيلي، وذلك بموجب سياسة قديمة تتبعها الشبكة، وتبرر تلك السياسة بأنها تهدف إلى ضمان الدقة في التغطية حول موضوع مثير للجدل. 

ووصف الموقع في تقريره أن ذلك يعني نشر قدرًا كبيرًا من تغطية شبكة CNN للحرب في غزة وتداعياتها، كانت من نصيب صحفيين يعملون تحت ظل الرقابة العسكرية في البلاد.

استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في التضليل 

لم تكتفْ إسرائيل باستخدام وسائل الإعلام التقليدية فحسب، بل استغلت أيضًا مواقع التواصل الاجتماعي لجذب المستخدمين من خلال نشر معلومات مضللة. هذه المنصات تُعتبر أدوات فعالة لنشر روايات معينة، إذ يسهل تداولها، مما يُعزّز من انتشار الشائعات والأخبار غير الدقيقة، وتشكيل الرأي العام بطريقة تخدم مصالحها وتشكك من صدق الرواية الفلسطينية. 

ويفسر "دهب" أن نشر ادعاءات كاذبة باستخدام مجموعات مثل "الكتائب" لنشر محتوى موحد عبر عدة حسابات أسلوب شائع، ويعتمد على التلاعب بالوعي العام وزعزعة الثقة في المعلومات، ويمكن أن تكون الإعلانات المدفوعة وسيلة فعالة لنشر المعلومات، سواء كانت صحيحة أو غير صحيحة، مما يزيد من انتشارها بسرعة.

وسبق أن حذرت نائبة رئيسة المفوضية الأوروبية، فيرا جوروفا، في سبتمبر 2023، من ضمّ منصة "إكس" أكبر نسبة من المعلومات المُضلِّلة مقارنة بغيرها من الشبكات الاجتماعية. 

وبعد عام من الحرب على غزة، تأكّد تحذير جوروفا، إذ أصبحت منصة "إكس" أداة للترويج للأجندة الإسرائيلية، وشهدت المنصة تدفقًا كبيرًا لمقاطع الفيديو والصور المضللة المتعلقة بالحرب على غزة، محققة مشاهدات مليونية. 

يدلل "دهب" أن الأمر يشبه  تجربة قد أجريت سابقًا كانت تسلط الضوء على سرعة انتشار المعلومات في العصر الرقمي، اعتمدت على أن كل فرد لديه شبكة من المتابعين، وعندما يشارك شخص ما منشورّا، يمكن أن ينتشر بسرعة عبر هذه الشبكات، مما يؤدي إلى تأثير مضاعف.

التقييد على منصات "ميتا" 

منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر الماضي، شهدت وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة التابعة لشركة ميتا، الكثير من القمع والتغيير في خوارزميات الأمان، إذ أُغلق وقُيّد العديد من حسابات المستخدمين بدون التوضيح للبعض، والبعض الآخر كان يصله تحذير مفاده بأن هذا المحتوى يُحرّض على العنف والكراهية.

وعلى الصعيد الآخر آثار فيسبوك جدلًا كبيرًا بعد اتهام عدد من مستخدميه بحذف منشوراتهم المتعلقة بالقضية الفلسطينية أو حجب تداولها لعدد من المستخدمين، وبحسب تقرير نشرته منظمة "Human Rights Watch" في ديسمبر من العام الماضي، بعنوان "نكث الوعود"، وضّّحت فيه اتبّاع شركة ميتا لـ6 أنماط رئيسية للرقابة على منشورات المستخدمين: "إزالة المحتوى، وتعليق الحسابات أو إزالتها، وتعذر التفاعل مع المحتوى، وتعذر متابعة الحسابات أو ذكرها بـ(تاج)، والقيود على استخدام ميزات مثل البث المباشر في فيسبوك/إنستجرام، والانخفاض الكبير في ظهور منشورات الشخص أو قصصه أو حسابه دون إشعار، ما يسمى بالـshadow banning".

وأشارت المنظمة إلى استناد شركة ميتا في اتجاهها على سياسة المنظمات والأفراد الخطرين، التي تضم بشكل كامل قوائم "المنظمات الإرهابية" التي حددتها الولايات المتحدة، لتقييد التعبير المشروع بشأن الأعمال القتالية بين إسرائيل وحماس، فالولايات المتحدة تُصنّف حركة حماس كمنظمة إرهابية، وتعتبرها تهديدًا للأمن القومي بسبب أنشطتها المسلحة ضد إسرائيل.

طرق التحايل في مواجهة التضليل 

وعلى جانب آخر، حاول داعمو القضية الفلسطينية التحايل على خوارزميات شركة ميتا عن طريق ما يسمى بـ "algospeak"، وهي عبارة عن مجموعة من العبارات والتهجئة الخاصة والكلمات الرمزية لمنع قمع منشوراتهم، عن طريق تغيير تهجئة كلمات مثل فلسطين وغزة بغير طريقة نطقها، أو وضع فواصل ونقاط بين الحرف والآخر. ومنهم من أصبح يرمز لفلسطين بالبطيخ، نظرًا لأن ألوانه نفس ألوان علم فلسطين، وذلك بغرض التحايل على سياسات الشركة، خصوصًا أنها لا تضع مراجع بشرية لهذه المنشورات، وبهذا يسهل التحايل عليها.

يفسر "دهب" أن الخوارزميات المستخدمة كطريقة لحماية المنشورات المتعلقة بفلسطين من الحجب، تعتمد على الاحتيال على الذكاء الاصطناعي الذي يبحث عن أنماط مميزة مرتبطة بتلك القضايا. 

في الوقت الذي يسهل تداول الأكاذيب عبر مواقع التواصل الاجتماعي دون تأكيد، يرى "دهب" على أهمية وجود وسائل إعلام متخصصة في تفنيد الأحداث اليومية للأخبار، وتُعدّ مرجعًا موثوقًا للمعلومات. لكن يحتاج الأمر إلى جهد كبير والتزام بتحديث المعلومات دوريًا، ووجود فرق عمل متخصصة، إلى جانب تنظيم آلية للتحقق من الحقائق عن طريق استخدام أدوات وتقنيات للتحقق، كذلك تقديم المعلومات بأسلوب جذاب.