قبل تعويم الجنيه في نوفمبر 2016، لم تكن معرفة المصريين بمصطلحات الاقتصاد عميقة، لكن منذ ذلك الوقت وحتى الآن تعمقّت معرفتهم بمصطلحات مثل "التعويم" و"التضخم"، وهو ما ظهر مع المؤتمر الصحفي الذي ظهرت فيه مديرة صندوق النقد، كريستالينا جورجيفا، أمس الأحد 3 نوفمبر، وعقده رئيس الوزراء دكتور مصطفى مدبولي، قبل المراجعة الرابعة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي المشترك مع صندوق النقد.
تعويم الجنيه.. 6 مرات
منذ عام 2016 تعاني مصر من أزمة اقتصادية حادة، بدأت بتحرير سعر الصرف في نوفمبر 2016، وارتفاع سعر الدولار في مقابل الجنيه المصري، من 8 جنيهات إلى 13 جنيهًا، ووصل حاليًا إلى 50 جنيهًا، بعدما قامت مصر بـ"تعويم" الجنيه ست مرات حتى الآن، فيما وصل معدل التضخم- بحسب تقرير للبنك المركزي المصري- إلى 29.8% في يناير الماضي.
قبل سنوات لم يكن لدى ليلى حامد، 55 عامًا، أية معرفة بالاقتصاد، وكان كل ما تعلمه عن الأرقام والحسابات ما تدفعه لبائع الخضروات والفاكهة، وبعض الحسابات الأكثر تعقيدًا داخل "السوبر ماركت" بسبب اختلاف الأسعار"، غير أنها بدأت في متابعة أزمات نقص السلع الأساسية المتكررة منذ 2016، إذ أنها تمسّ احتياجاتها اليومية، وتؤثر على نمط استهلاكها "بقيت أعرف يعني ايه تضخم وأسمع عن الديون الخارجية، ويعني ايه صندوق النقد الدولي".
منذ مارس 2022 لاحظت ليلى أن ارتفاع الأسعار صار مُتلاحقًا، كما واجهت أزمة -مثلما واجهها كثيرون- هي نقص السلع، كما حدث من نقص للسكر في فترات سابقة "بقيت أقرا الأخبار عشان أعرف ايه اللي بيحصل، يعني مثلًا لما عرفت بنقص السكر، بعدها شفت ده في السوق بنفسي، وفضلت فترة مكنش عندي سكر في البيت".
يوضح علاء علي -خبير اقتصادي ومصرفي- لـ"صوت السلام" أن المعرفة بالمصطلحات الاقتصادية المرتبطة بالسوق والسلع أمر إيجابي، وازدادت تلك المعرفة لدى أغلب الفئات خلال السنوات الأخيرة، مُوضحًا أن السبب هي موجات التضخم المرتفعة في الفترة الماضية، على عكس سنوات ما قبل التعويم- أي قبل عام 2016- التي كان لا يعرف فيها المصطلحات الاقتصادية سوى المتخصصين بالمجال.
يصف الخبير الاقتصادي تلك المعرفة بكونها "إيجابية"، لأنها جزء من التوعية الاقتصادية، على حد قوله، والتي تساعد المواطنين على تحمل الخطط المستقبلية وفهم للواقع الحالي.
ويكمل قائلًا "لما الناس تعرف إن عندنا موجات تضخم، والتضخم بيتعالج بالعرض والطلب، فجانب الطلب الحكومة قامت به من خلال تشديد السياسات النقدية وأحكام السيولة، وجانب العرض يعني الإنتاج، بمعنى زيادة الإنتاج بيقلل التضخم وبالتالي الناس هتفهم وهتشتغل أكتر، فالمعرفة هتفدني بأنهم هيزودوا إنتاج، إلى جانب إنهم يكونوا على معرفة ووعي بالأزمات الاقتصادية، وطريقة التعامل معها".
"انت التضخّم معداش عليك ولا ايه!"
استغرب عبدالله، 23 عامًا، نفسه، حينما وجد لديه اهتمامًا بقراءة تقرير البنك المركزي لمعدلات التضخم منذ عام 2000 وحتى عام 2024، إذ يقول "أنا بشتغل كول سنتر، مجرد ترس في آلة، لكن دلوقتي بدأت أعرف يعني ايه تضخم وتعويم، وأهتمّ بزيارة مديرة صندوق النقد، لأن ده أكيد هيأثر على سعر فطاري ومواصلاتي".
تطورت علاقة محسّب بالاقتصاد، حتى أنها تحولت لفقرة مضحكة بينه وبين أصدقائه في جلسات المقهى الليلية، فاستخدام مصطلح تضخم جزء من جمل ساخرة على عدة مواقف، فإذا طلب أحد أصدقائه مشروب ذو سعر مرتفع، يكون رد محسب في ذلك الوقت بسخرية: "البنك المركزي هيدور عليك" أو "أنت التضخم معداش عليك ولا ايه!".
خلال 2024، أصدر التعبئة والإحصاء معدل التضخم الشهري، وكان شهر فبراير هو الأعلى تضخمًا مقارنة بباقي الأشهر، بـ"36.0%، بينما انخفض معدل التضخم في مارس إلى 33.1%، بعد تعويم الجنيه أمام سعر صرف الدولار في الشهر نفسه، إذ ارتفع من 30.87 جنيهًا إلى 49.31 جنيهًا.
"كان نفسي أقضّي شبابي بعيد عن التعويم!"
منذ التعويم الأخير، أصبحت رحمة محمد ،21 عام، تتابع أخبار سعر الدولار يوميًا، خوفًا من صدمة الاستيقاظ على كابوس قرار تعويم جديد، كما حدث في السنوات الماضية، الذي يعني لها تأثيرًا على قيمة المصروف الذي تتلقاه من والدها، وتقول ساخرة "كان نفسي أقضّي شبابي في حاجة ألطف من إني أتابع سعر الدولار واجتماع البنك المركزي".
ولكن رحمة تشارك والدها -60 عامَا- متابعة تغيرات سعر الدولار، كذلك القراءة عن المصطلحات الجديدة التي تتعرف عليها في مجال الاقتصاد للمرة الأولى، والتي تخصّ ميزانية المنزل الشهرية، ومن ضمنها بالطبع مصروف رحمة، فقرار زيادة المصروف تكون نتيجة لتغير في سعر الدولار، أو زيادة نسبة التضخم، وليس ارتفاع سعر خدمة محددة تحتاجها رحمة "كده كده كل حاجة بتزيد، المبرر دلوقتي في زيادة المصروف هو الدولار"، والزيادة هنا لا تعني ارتفاعًا حقيقيًا في قيمة المصروف، بل العكس كل ما تأمله رحمة هو ثبات قيمة المصروف.
جدير بالذكر أن المراجعة الرابعة تأتي بموجب اتفاق وقّعته القاهرة مع صندوق النقد الدولي في أبريل الماضي، لزيادة القرض الأصلي من 3 مليارات دولار إلى 8 مليارات دولار، لدعم مصر في إدارة الأزمة الاقتصادية الحالية، وقد أشارت مديرة صندوق النقد الدولي خلال المؤتمر إلى تراجع التضخم في مصر لـ26%، وهناك اتجاه لخفضه إلى 16% بنهاية العام المالي.
قلق وتوتر
تقول أسماء مراد -أستاذة علم اجتماع- في حديثها لـ"صوت السلام" إن تلك المعرفة الاقتصادية خلقت حالة توتر وقلق، تحديدًا في فئة الشباب، بسبب متابعتهم المستمرة لمعدل التضخم أو سعر الدولار، وربطهم لتلك المعدلات بحياتهم ومستقبلهم، وقد يصل هذا القلق إلى إحباط واكتئاب لدى تلك الفئة العمرية، بحسب حديثها.
وتشير أسماء أن الوضع الاقتصادي المتأزّم أدى إلى اختفاء الطبقة المتوسطة تقريبًا، إذ لاحظت أن السلوك الاستهلاكي لتلك الطبقة تغيّر تمامًا، بسبب معرفتهم بالأزمة الاقتصادية وأثرها المباشر على تكاليف الحياة اليومية، فظهرت تغيرات سلوكية في جودة الأكل والاستغناء عن الرفاهيات، وصولًا إلى الاستغناء عن بعض الخدمات الأساسية، وأصبح الهدف الرئيسي هو دفع المصروفات الدراسية للأبناء، وتضيف أن الجملة المعتادة بين الأسر حاليًا؛ هي "احنا بنحاول نكفّي أولادنا وده المهم دلوقتي".