قضى ارتفاع أسعار الألبان في مصر على طقوس معتادة في البيوت المصرية، إذ اختفت رائحة الشاي بالحليب الذي طالما حرصت الأسر على تناوله في الصباح.
وصار اللبن سلعة غالية ونادرة الوجود في المنازل، منذ القفزات السريعة التي شهدها سعر الحليب الجاموسي من 15 ثم 20 إلى 25 جنيه، والحليب المُعلب إلى 40 و45 جنيه.
ورغم الضرورات الغذائية التي تؤكد أهمية شرب الحليب كونه مصدر للكالسيوم خاصة للأطفال، إلا أن أسر كثيرة قررت الاستغناء عنه أو تخفيض إجمالي ما يقومون بشرائه شهريًا منه.
واللبن له وجود كبير في ثقافة الطعام بين المصريين، فوجبة الإفطار لا تخلو من كوب شاي بحليب أو قهوة بحليب، فيما يحتل اللبن ومشتقاته مكانة معتبرة في أطباق المطبخ المصري مثل المكرونة "البشاميل" وأطباق الحلويات.
ومن القرية إلى المدينة مثَل الانتقال صدمة ما لحنان محمد، ربة أسرة وموظفة، وأم لخمسة أبناء، فهي لم تستطع الاستغناء عن كوب الشاي بحليب المعروف في قريتها التي تشتاق إليها.
ومن أبناء حنان اثنين تزوجا، وشاب حديث التخرج، وطفلين يحتاجان يوميًا لكوب من اللبن لبناء غذائي قوي.
وهي أيضًا لم تفق بعد من صدمة الفروق بين القاهرة والقرية، إذ بحثت عن عمل مناسب لرفع مستوى معيشتها، لكن هذا لم يتحقق فحنان تعيش في مستوى معيشي جيد بالفعل، وتحاول بالكاد توفير الأساسيات، تقول: “حتى هذا الأمر بقا صعب".
حسمت حنان أمرها وخضعت للظروف، توضح: “لا احنا في القرية ولا زي زمان.. كان لازم نقلل احتياجاتنا.. من كيلو لبن يوميًا لوجبة الإفطار إلى كيلو كل يومين"، هكذا فعلت لضبط ميزانية الطعام التي وضعتها وزوجها ليناسب دخلهما معًا، إذ تتقاضى أجرًا خمسة آلاف جنيه وزوجها سبعة آلاف جنيه، ويضعان 50 % منه للطعام فقط.
وتفكر هي كل يوم في تدبير ميزانية للطعام لا تزيد عن المطلوب، تستغني عن غير الضروري، لا تشتري الرفاهيات، فيما تضع في ورقة تقسيم ميزانية الحليب وحده بجانب فواتير المرافق، ثم تحسب ما تبقى من دخلها وزوجها، خشية نفاذه قبل نهاية الشهر.
وشهدت أسعار الألبان والجبن والبيض ارتفاعًا بنسبة 70,8 % ما بين سبتمبر الحالي ونفس الشهر من 2022، بحسب البيان الأخير الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة ولإحصاء مطلع أكتوبر الجاري، والذي يعلنه الجهاز بشكل شهري لتوضيح معدل التضخم في مصر والذي كان في سبتمبر 2022 بنسبة 15.3%، بينما أصبح في سبتمبر 2023 بنسبة 40.3 %، بفارق 25% في عام واحد.
هذه المعدلات المرتفعة أقلقت هاجر عبدالسلام، موظفة وأم لطفلين، لذا قررت حرمان نفسها من الحليب لأجل الطفلين.
وتقول: “لهم الأولوية دول طفلين في مرحلة نمو.. أما أنا وزوجي فلجأنا في الإفطار إلى القهوة سريعة الذوبان التي يوجد بها "كريمر" مبيض يعطي نفس طعم الحليب والشاي ولكن بلا لبن، وأحيانًا نستخدم الحليب المجفف "بودرة" والذي ارتفع ثمنه أيضًا".
ولا يزيد دخل هاجر وزوجها معًا عن عشرة آلاف جنيه، وكلاهما يحصل على النصف، وهو دخل تعتقد أنه بالكاد يكفيها، لذا بحثت عن حلول تناسب ميزانيتها وزوجها، ومنها توقفها عن طهي صينية المكرونة "البشاميل" التي تكلفها الكثير، وذلك على رغم من كونها وجبة محببة للطفلين.
وتعول داليا محمد، ربة منزل، ثلاثة أبناء، منهم طفلين وشاب حديث التخرج، فيما لا يزيد عن دخل الأسرة عن ستة آلاف جنيه هي إجمالي ما يتقاضاه زوجها، بينما هي تتولى ضبط الميزانية لشراء الأساسيات واستبعاد ما لا يحتاجونه.
ولا تستطيع داليا كل شهر الخروج بميزانية مناسبة للدخل، رغم منعها الكثير من الأطعمة والوجبات، وهي في حديثها تعبر عن حالة غيرها من المواطنين في الأسواق، وتقول: “الناس بتكلم نفسها في السوق من الأسعار.. وأكثرهم ربات البيوت والأمهات الذين يشعرون كل يوم بالقلق لما يتعرضون له من شعور بالعجز في كل زيارة للسوق".
وتقول نهى شوقي، طبيبة تغذية، إن الحالات التي تزورها بالعيادة ممن يعانون من ضعف أكثرهم من أطفال ونساء حوامل لديهم نقص في الكالسيوم وهي حالات أخذت في الارتفاع مؤخرًا في العيادة، موضحة: "الحليب مفيد لصحة العظام والأسنان".
وأضافت: “النساء والأطفال أهم فئة يجب أن تحصل على الكالسيوم؛ لأن نقصه يؤثر على صحة الأم، ويؤدي إلى حدوث لين في العظام ومشاكل في تكوين الأسنان السليمة للأطفال من عمر خمسة إلى عمر عشرة".
وتفسر زيادة الحالات وتقول: “الحليب لم يعد أولوية بالنسبة للحياة التي نعيشها الآن".