العيش في حياة أكثر حرية، سهولة التحرك في أي وقت، الاعتماد على النفس، وأنا لم يكن لدي أي خلفية عن الحياة بدون الأهل.. كانت هذه الأشياء تدور في ذهني أثناء التحاقي بالجامعة.
كانت أمي تقول لي سوف تعود لي بعد أول اسبوع، ولن تكون قادر على فعل كل شيء بنفسك. العودة من الكلية وتحضير الطعام، الذهاب للعمل وتأدية مهام الدراسة.. كان هذا روتيني في أول أيام الاغتراب، كنت مُنبهرًا بما يحدث، مُندهش من قدرتي على القيام بكل ذلك بمفردي، وأنا لم أفعل ذلك من قبل.
مع انتهاء العام الثاني من حياة الاغتراب، لم يكن اغترابي استقلالًا كاملًا، لأني أعود إلى منزلي لفترات طويلة، لكن الأيام التي أقضيها في السكن الجامعي صارت أصعب بمرور الوقت، تساءلت حينها: "هل كان انبهاري مجرد "جمال البدايات"؟"، لا أعرف بالضبط ما السبب الذى جعل الأمر صعبًا.
في هذه الفترة، بدأت أشعر بالملل، هل هو الاعتياد على الروتين؟، لا أعلم ما الأسباب. ولكن الذي أعلمه هو أن الاغتراب لم يكن سهلًا مثلما كنت أظن قبل خوض التجربة، عندما كان أصدقائي من الجامعيين يحدثونني عن العيش مع بعضهم دون مراقبة الأهل، وكنت وقتها أدرس بالمرحلة الثانوية، بالشكل الذي اعتدنا عليه منذ أن وعينا على الحياة.
كانوا يقولون لي: "بنخرج براحتنا، فُسح بقى، ونرجع متأخر، هزار طول اليوم"، هذا ما رددته ألسنتهم عن تجربة الاغتراب، لم يُحدثني أحد عن غسيل الأطباق والملابس، وتجهيز الأكل، ولم يُخبروني بمسؤولية التخطيط للميزانية وكيفية عدم الإسراف. عامين ولم تتحقق الأحلام الوردية التي رسمتها في مُخيلتي، خلال عامي الدراسي لا أتذكر أني عُدت يومًا بعد الساعة الواحدة صباحًا.
كيف سأستيقظ في الثامنة صباحًا وأنا عائد للسكن في الرابعة أو الخامسة صباحًا؟، كيف أقضي يومي في المرح، وقد قضيت يومًا شاقًا بالكلية؟، تحضير الطعام هو الأهم كيف يبتسم إنسان وهو جائع؟!.
في الحقيقة فعلت مُراقبة ذاتية لنفسي، لا أنكر أنني أفعل أشياء لم أكن أجرؤ على فعلها وأنا في المنزل، مثل ترك أسطوانة الغاز مفتوحة، ترك السخان.
لا أنكر أن حياة الاغتراب غيّرت في شخصيتي الكثير، من شخص لا يعد لنفسه كوب الشاي حتى، إلى فرد مسؤول عن نفسه ويستطيع طهو اللازانيا والنجرسكو والكبسة، والكثير من الأكلات التي يصعب تحضيرها، حتى الكشري قُمت بالإعداد له بنفسي.
اختيار زميل السكن شيء صعب جدًا في حياة الاغتراب، أن تكونوا أصدقاء وكل منكم يعيش في منزله شيء منفصل، عن الصداقة مع شخص تعيش معه في نفس المكان، 24ساعة يوميًا.
كيف أستيقظ من النوم وأرى 25 شخص يقفون فوق رأسي؟، نسكن فى مكان قريب جدًا من الكلية، وأصدقائنا يتجمعون لدينا أولًا قبل التوجه للجامعة، لا زلت أتذكر أول مرة يحدث فيها ذلك، كان مشهدًا مرعبًا عندما فتحت عيني ووجدتهم معنا في نفس الغرفة، قبل موعد المحاضرة بنصف ساعة ليوقظونا كي نتحرك سويًا.
الغريب فى الموضوع، أنهم لم يكونوا متفقين، بل قرر كل منهم قضاء الوقت المتبقي على موعد المحاضرة لدينا، وفي رأيي السبب الوحيد لتجمع 25 شخص في غرفة واحدة هو أن يكونوا في زيارة لمريض!
هذا المشهد لن أنساه طوال حياتي، فمن قد يستيقظ ليجد أمام عينيه 25 شخصًا، إلا إذا كانوا في "عنبر السجن"!