في ذكرى بنائه.. "عين الأسواني" تقدم رحلة سردية للسد العالي 

تصوير: أرشيفية - السد العالي

كتب/ت أمنية حسن
2025-01-15 13:28:35

في أقصى جنوب مصر على نهر النيل بالقرب من مدينة أسوان، يقع أحد أعظم المنشآت الهندسية في العالم، يمتاز بارتفاعه الكبير وعرضه الواسع، وقدرته الفائقة على مواجهة قوى الطبيعة، حتى أصبح بمرور السنوات رمزًا للقوة والإرادة البشرية، هو السد العالي الذي تم إنشاؤه عام 1960.

لا يعتبر السد العالي مجرد مشروع خرساني؛ فهو يمثل أكثر من ذلك بكثير، ففي كتابه "التاريخ الإنساني للسد العالي"، استعرض الكاتب يوسف فاخوري تجربته في جمع شهادات العاملين والمهندسين الذين شاركوا في بناء المشروع على مدار عامين، موضحًا تأثيره العميق على المجتمع الأسواني. 


كما تناول الكتاب الآثار التي خلفها السد، والتي لا تزال محسوسة حتى اليوم، وقدم جانبًا إنسانيًا تاريخيًا لا يتطرق إليه التاريخ الرسمي، وتوثيقًا للمشاعر والتجارب الشخصية التي تعكس الصعوبات والتضحيات التي تعرض لها العاملون من أجل بناء هذا الصرح.

تحلّ ذكرى بناء السد العالي اليوم بالتزامن مع العيد القومي لمحافظة أسوان، وتأخذ "عين الأسواني" قراءها في رحلة سردية تروي قصة هذا المشروع العظيم مع الدكتور رشدي سعيد، خبير المياه الدولي.

في هذه الرحلة، يشارك الدكتور سعيد رؤيته حول دور السد في تغيير وجه مصر من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى تأثيراته على البيئة والنظم المائية في المنطقة، ويتحدث عن التحديات التي واجهها المهندسون والعاملون أثناء تنفيذ المشروع، وكيف أصبح السد علامة فارقة في تاريخ مصر المائي.


مصر بين مرحلتين 

منذ أكثر من 125 عامًا قبل بناء السد، وتحديدًا خلال فترة الاحتلال الإنجليزي، كانت هناك محاولات من المصريين لمنع الفيضانات وتخزين مياه النيل، وفق الدكتور رشدي سعيد، الذي يوضح أن مصر تعرضت لخسائر بشرية وبيئية ضخمة نتيجة تلك الفيضانات.

كان لا بد من البحث عن حل لمشكلة الفيضانات ونقص المياه في مصر. الاقتراح الأول دار حول تخزين المياه في بحيرة ألبرت بأوغندا، لكن تبين أن سعتها صغيرة للغاية ولا تلبي احتياجات مصر المتزايدة من الماء، بعدها نظر المصريون نحو إثيوبيا كحل آخر.

لكن هذا الاقتراح تخلوا عنه بسبب القلق من أن إثيوبيا قد تسيطر على المياه، وهو ما يتعارض مع مصالح مصر في تأمين مواردها المائية، ثم تطور الأمر بعد ذلك إلى اقتراح تخزين المياه داخل أراضي مصر نفسها في منطقة خزان أسوان القديم، مما أدى إلى تهجير سكان النوبة في مصر والسودان، وكذلك نقل المعابد الأثرية إلى مناطق أخرى لحمايتها من غمر المياه، في عملية ضخمة تكشف عن التحديات الكبيرة التي صاحبت بناء السد العالي.


الحياة قبل السد 

يصف سعيد الحياة قبل بناء السد العالي بالقاسية، إذ كانت تتعرض مصر إلى موجات فيضان ضخمة ومتكررة كل 7 سنوات في نهر النيل، وتترك دمارًا كبيرًا داخل قرى الصعيد؛ نتيجة الانحدار الكبير في مجرى النيل، فيأتي النهر من مرتفعات إثيوبيا التي تصل إلى حوالي 1800 متر، بينما تصل المنطقة المحيطة بأسوان إلى 200 متر فقط حتى الوصول للبحر المتوسط بارتفاع صفر، مما يعطي الفيضان قوة هائلة. 

كانت هذه القوة تساهم في غمر الأراضي وتدمير القرى وغرق النساء والأطفال، وظلت الفيضانات مستمرة لمدة 20 عامًا،  تنوعت خلالها مستويات الفيضان بين 7 سنوات من الفيضان العالي، و7 سنوات من الفيضان المتوسط، و6 سنوات من الفيضان المنخفض. 


لذا شكلت عملية تخزين المياه مشكلة في مصر، لا سيما في الشهور من يناير إلى يوليو، التي تُعرف بـ"فترة التحاريب"، ويعتمد فيها على مياه النيل الأبيض بكمية محدودة، أدت إلى نقص المياه وتبوير الأراضي الزراعية في أوقات وغمرها وقتل المحاصيل في أوقات أخرى.

يقول سعيد: "الفيضانات كانت تدمر الزراعات الصيفية، ويعتمد المزارعون على الموسم الشتوي فقط بعد انحسار المياه؛ لزراعة محاصيل شتوية مثل القمح والفول والشعير والعدس، باستثناء القطن لكونه المحصول الوحيد الذي يصمد أمام الفيضانات".

لم تكن الزراعة هي الخاسر الوحيد من الفيضانات ولكن أنظمة الري والسياحة، إذ كانت تتعرض مراكب الصيد للتوقف لمدة تصل إلى 3 شهور بسبب ارتفاع منسوب المياه، إلى جانب صعوبة التنقل بالقوارب بسبب الفيضان.  


هذه التقلبات شكلت تهديدًا دائمًا للمجتمعات المحلية على ضفاف النيل، مما استدعى البحث عن حلول فعّالة للحد من الأضرار الناجمة عنها وتأمين حياة المواطنين ومصادرهم الاقتصادية.

اتفاقيات بناء السد

لم يكن بناء السد العالي مجرد حل داخلي لمصر، بل تطلب أيضًا التنسيق مع الدول المجاورة، وعلى رأسها السودان، بسبب تأثير المشروع على أراضيها، بحسب سعيد، فكانت بحيرة ناصر تغطي مساحة كبيرة من الأراضي السودانية.

لذا، كان لدى السودان شروط خاصة تتعلق بالاتفاق، ومن أبرزها زيادة حصتها من مياه النيل بموجب اتفاقية 1929 لتقسيم المياه، لضمان استفادة أكبر من المياه المتجمعة في بحيرة ناصر، التي أعطى للسودان فوائد اقتصادية أخرى مثل توفير فرص عمل جديدة في المنطقة وزيادة الثروة السمكية. 


ومن أجل إقناع السودان بالموافقة على بناء السد العالي، قامت مصر بدفع مبلغ قدره مليون جنيه إسترليني كتعويض، نظرًا لتأثير المشروع على تهجير سكان النوبة إلى السودان، وخرج وقتها إدعاء من قبل السودانيين بأن عدد سكانها سيرتفع ليصبح أكبر من مصر، بالرغم من أن الرعاية الصحية في تلك المناطق ضعيفة وأدت إلى ارتفاع وفيات الأطفال.

مصر بعد بناء السد 

لكن بعد بناء السد العالي، أصبح هناك مخزون ثابت من المياه، بسبب إنشاء العديد من "هاويس المياه" التي ساهمت في توليد الكهرباء من خلال إنشاء سدود إضافية مثل سد أسوان وسد إسنا وسد أسيوط، مما أسهم في توفير كهرباء كافية لعدد كبير من المناطق الواسعة في مصر، بدلًا من الاعتماد على "اللمبات الجاز" كما كان يحدث في السابق.


وبفضل السد العالي تمكن المصريين من زراعة الأراضي أكثر من مرة في العام، وإدخال نظام الزراعة المروية، وهو ما سمح بتوسيع المساحات المنزرعة لتشمل محاصيل جديدة ومواسم متعددة في الموسم الشتوي والصيفي ودورات زراعية أخرى.

ويتضح أثر بناء السد العالي، في أن خزان أسوان المستخدم في تخزين المياه قبله كان يفقد حوالي 22 مليار متر مكعب من المياه في البحر المتوسط بسبب الفيضانات.


كما يوضح سعيد أنه عقب إنشاء السد العالي، قضت مصر على مشكلة الفيضان السنوي، وأصبحت بحيرة ناصر هي المصب الجديد لمياه النيل، بسعة تخزينية تصل إلى 260 مليار متر مكعب من المياه، مما منح مصر مخزونًا مائيًا هائلًا يكفي لتلبية احتياجاتها لمدة 3 سنوات في حالة الجفاف الشديد، و7 سنوات في الظروف العادية.

يتضح في نهاية الرحلة، أن بناء السد العالي في مصر له تأثير عميق على العديد من المجالات، بما في ذلك السياحة والطاقة، فقد ساهم المشروع في انتعاش كبير في قطاع السياحة، خاصة في مناطق الأقصر وأسوان، مما جعل الرحلات النيلية أكثر شيوعًا، وتوفير الأمن المائي والحماية لمصر.