كلما مررتُ بجانب هذا الفرن المجاور لمنزلنا، أتذكّر ذلك الطفل؛ حينما كنا صغارًا ولم نُكمل العشر سنوات، وكان كل ما يشغل همّي وقتها هو لعب كرة القدم في الشارع بعد المدرسة مع جيراني الأطفال.
وخلال مشواري إلى المدرسة كنت أرى طفل في نفس عمرنا، لكنه يعمل بالفرن، ويقف أمامه في تلك الحرارة الشديدة، كنت أراقبه وألمح نظراته التعيسة، كنت أراه قبل ذهابي إلى المدرسة، وحين عودتي منها ولعبي مع الجيران، وهو قابع أمام تلك المحرقة التي تحرق طفولته.
في إحدى المرات قام صديقي ياسين بضرب الكرة بقوة، فدخلت الفرن بدون قصد، فوجدنا عمرو، ذلك الطفل العامل، يجري إلى الداخل لإحضار الكرة، فقُلنا له لما لا تأتي وتلعب معنا قليًلا، بدت عليه مظاهر التردد و القلق من صاحب الفرن خوفًا من تعنيفه، حاولنا إقناعه بأن الوقت الآن ليس ذُروة، ولا يُقبل ناس كثيرين في هذا الوقت، فوافق بالفعل على اللعب معنا قليًلا، ولا أزال أتذكر الفرحة التي اعتلت وجهه حينها إلى الآن.
الموقف لم ينتهْ عند ذلك، فما إن لعبنا قليًلا حتى وجدنا صاحب الفرن يُنادي على عمرو ويقول له بلهجة شديدة وحادة "تعالى هنا، مش أنا سايبك في الفرن يا بيه؟"، رأينا جميعًا ذلك المشهد، ولم تكن لدينا الجرأة للتفوه بكلمة واحدة للدفاع عن عمرو أمام ذلك الوحش، وبعدما انتهى من تعنيفه، جرّه ورائه من طرف قميصه البالي، فلم يكن أمام عمرو سوى الانصياع لأوامر صاحب الفرن.
بعد هذا اليوم كنا كلما طلبنا من عمرو مشاركتنا اللعب كان يرفض، مُعلقًا "مينفعش ألعب لازم أشتغل عشان لقمة العيش"، وفي أحد الأيام ونحن نلعب كرة القدم بعد المدرسة، كان عمرو يقف أمام "السير" الملتهب ويتلقّف الخبز الساخن، وفي الوقت نفسه عيناه كانت مُثبّتة على الكرة التي نلعب بها، وفجأة سمعنا صوت صراخ.
كان عمرو قد لمس "السير" المُشتعل وبدأ في البكاء، في لحظتها كنا قد هرولنا إليه وطلبنا منه الذهاب إلى الصيدلية لتخفيف ألم الحرق، لكنه رفض بعد أن أمسك دموعه قائلًا "لا لا عادي، هغسلها بمية وهكمل شغل، مينفعش أسيب الفرن"، فسألته لماذا تقوم بكل ذلك؟ فقال"كله لأجل لقمة العيش".