كان يا أحبابي في قديم الزمان فلاح يملكُ بستانًا من أروع ما خلق الرحمن ، فيه أشجار مثمرة، وغراسات، ومشاتل بمختلف أنواعها وألوانها.
يخرج كل يوم في الصباح الباكر يحرث حقله ويروي الأشجار ويجمع الثمار ليذهب بها فيما بعد إلى السوق كي يبيعها ويعود بثمنها لزوجته وأبنائه.
رُزق هذا الفلاح بولدين شابين قويين من حيث البنية والحجم ولكنهما كانا كسولين ولا يجيدان عمل شيء حتى أنهما لا يساعدان والداهما في أعمال الحقل والفلاحة فتجده مضطرًا إلى الاعتناء بالبستان بمفرده وتظل كل الأعمال الشاقة من مسؤوليته تقع على كاهله.
مرت الأيام وتقدم به العمر وبدأ الفلاح المسكين تهون قواه وأصبح دائم الشعور بالحزن بسبب تصرفات ابنيه الطائشة.
وكان يبحث دون كلل عن طريقة حتى يعيدهما إلى طريق الصواب والاجتهاد للحفاظ على ما توارثه عن الأجداد من خير وثمار يجود بها البستان على مر السنين والمواسم.
وبمرور الزمن، أجبر مرضٌ الابَ على ملازمة الفراش لفترة طويلة حتى اعتقد أن الموت على الأبواب، فقرر أن يجمع أبناءه وزوجته ليملي عليهم وصيته الأخيرة عسى أن يصلح شأنهم ويغير من طبعهم ويزيح عنهم الكسل والخمول.
فقال لهم: يا أبنائي هل تعلمان أن بالبستان كنزًا مدفونًا؟ ورثناه أب عن جد وأوصينا بعدم التفريط فيه إلى يوم الممات حتى يظل موجودًا للأجيال القادمة وهو الآن من نصيبكما فماذا أنتما فاعلان للحصول عليه؟ لم يعد بالإمكان الوقوف حتى على قدمي وأظن أن الوقت قد حان لفراق الأحبة ولقاء وجه الله تعالى عسى أن يتغمّدنا برحمته ويشفع لنا ويسامحنا إن قصرنا في أعمالنا وحياتنا.
فأجاب الولدان في نفس الوقت: "كلا يا أبي، لم تخبرنا عن هذا الأمرِ من قبل. وأين يقع هذا الكنز؟ فالبستان شاسع كما تعلم."
رد الأب بصوت ضعيف: "لقد دفن أبي قبل موته كنزًا عظيمًا وسط البستان. ولا أتذكر موقعه. إياكما أن تبيعا الأرض بعد موتي حتى لا تخسرا الكنز.
لم تمض ساعة وتوفي الأب تاركًا زوجته تبكي وتنحب فراق زوجها وهي تعرف أن البستان سيضيع من بعده وسيموتون شرًا، لتأكدها من طبيعة أبنائها الذين لم يقدموا على عمل شيء صالح طيلة حياة والدهم.
دفن الولدان أباهما وجلسا يفكران كيف سيجدون الكنز المدفون في أرض أبيهم وبعدها سيبيعون الأرض ويتمتعون بثمنها.
وفي صبيحة اليوم الموالي وقد كانوا في فصل خريف وهو الوقت المناسب لحراثة الأرض وزراعتها.
ركبا الاثنان جرار والدهما يجر ورائه محراثًا تلمع أسنانه من جده وقوة حديده وراحا يحرثان الأرض يمنة ويسرة شمالًا جنوبًا، شرقًا غربًا حتى أنهكهما التعب وأخيرًا تمسك بالمحراث صندوق صغير فركض الولدان نحوه لفتحه وقد نسيا كم التعب الذي واجهوه أثناء عملية البحث عن الكنز.
وها هما أخيرًا قد تحصلا على الصندوق؛ حمله الابن الأكبر بين يديه وراح يحاول فتحه وبعد صعوبة فتح الصندوق وما كان به إلا ورقة طويت على أربع ظنوا أنها خريطة ففتحوها لكن وقعا من هول المفاجأة فما كانت الورقة إلا رسالة من أبيهم يقول فيها:
"يا أبنائي هذا هو الكنز وهو أرضكم فمن جد وجد ومن زرع حصد ولا يوجد أحن وأطيب وأكرم من الأرض فلا تفرطوا فيها ولا تبيعوها فهي مصدر قوتكم وستركم، هذا هو وقت زراعتها فازرعوها قمحًا وشعيرًا وسيبارك فيه الله بإذنه تعالى.
ارتما الشابان على الأرض وراحا يضحكان مرة ويبكيان مرة فالدرس الذي أعطاه لهما والدهما بعد وفاته كان أقوى من مناجاته لهما لمساعدته في حياته. ثم نفض كل واحد منهما ملابسه وراحا يتمان ما بدءا من عمل فزرعت الأرض كلها.
وبعد مرور أشهر الشتاء توالت أشهر الربيع وعلت السنابل الذهبية محملة بحبوب جميلة تتمايل مع الرياح وما إن جاء الصيف وتحديدًا موسم الحصاد جمع الولدان المحصول الذي بشّر بمخزون كبير من الحبوب، وباعا نصفه في السوق وحصلا على مبلغ مالي لم يكونا ليحلما به طيلة فترة كسلهم السابقة.
أردف الشاب الكبير في القول: "فعلًا رحمة الله عليك يا أبي فمن جد وجد ومن زرع حصد".