رمضان الأخير في ضاحية الجميل

تصوير: باسم حنيجل - تصميم

كتب/ت مؤمن مسعد
2024-03-19 21:16:06

صباح كل يوم، يستيقظ محمد إدريس، 38 عامًا، على صوت جرافات وأعمال هدم قريبة من منزله في ضاحية الجميل بمحافظة بورسعيد، في وقت قُطعت فيه كل المرافق من مياه وكهرباء عن المنطقة.

تستمر الأصوات في الخلفية بينما ينظر "إدريس" إلى حوائط منزله التي خلت من زينة رمضان هذا العام، ولم يحتفِ أبناءه به كعادتهم؛ فهم في قلق مستمر وترقب أن تصل الجرافات إلى منزلهم ليكون أخر رمضان يشهدونه في نفس المنزل. خاصة وأن المحافظة ضاعفت من أعداد قوات الأمن، والجرافات التي تقوم بعمليات الهدم في الضاحية التي تحولت إلى ساحات للردم وبرك المياه، بحسب أحمد الجمل وسكان أخرون من المنطقة.

حاول "إدريس" أكثر من مرة الاتصال، بلا جدوى، بأرقام شكاوى كلًا من شركة الكهرباء وشركة المياه أملًا في عودتهم منذ 28 فبراير الماضي، لذا اتجه إلى شراء مولد كهرباء، بينما يتحمل يوميًا مشقة الذهاب إلى أقرب مكان لجلب الماء.

البيت ملك والأرض إيجار

يقول "إدريس" لـ"البورسعيدية”: «ولدت في هذا المنزل ولن أتركه مهما حدث لأنه ملكي، وأملك عقده، ولا أقبل أن يكون خياراتي إما الطرد أو الحصول على تعويضات مالية غير عادلة». فعلى الرغم من أن الأرض مستأجرة من الدولة بحق الانتفاع إلا أن المنتفعين استثمروا الكثير من أموالهم في البناء وتوصيل المرافق. وهو ما يجيز لهم اللجوء للقضاء لطلب تعويضات عن المباني وفق القانون المدني، بحسب إسلام عبد المجيد، المحامي بالنقض وعضو المجلس الشعبي المحلي للمحافظة سابقًا.

ويشرح "عبد المجيد" الناحية القانونية لما يحدث، بقوله: «بالرغم من أن القانون يجيز نزع الملكية للمنفعة العامة ولكن هذا النظام لا ينطبق على ضاحية الجميل لأنها مملوكة بالفعل للدولة. ومنذ حوالي ثلاث سنوات قامت محافظة بورسعيد بالتنبيه بإنهاء حق الانتفاع وهو أمر قانوني"

ومع ذلك يرى "عبد المجيد" أنه لا بد من التنبيه بإنهاء عقود الانتفاع بطريقة واضحة للأهالي، ومن لم ينبه عليه قانونًا يعتبر عقده ساريًا لمدة سنة أخرى. مشددا على أن هناك ضرورة لتوفير سكن بديل ملائم للأسر التي اضطرت إلى السكن بصفة دائمة في الضاحية، لأن أغلبهم ليسوا من أصحاب حق الانتفاع الأصليين وانتقلوا للسكن في الضاحية خلال العشر سنوات الأخيرة.

تعويضات قليلة بدون بدائل

التعويضات غير العادلة كانت قاسما مشتركا بين غالبية الأسر التي تجاوز عددها 2500 أسرة كانوا يقطنون في 316 عقارًا في ضاحية الجميل، التي تبعد عن قلب مدينة بورسعيد 10 كيلومترات في مواجهة ساحل البحر المتوسط. وتقع الضاحية ضمن "حي الجميل" الذي يقع في نطاقه أيضا كلًا من محمية أشتوم الجميل الطبيعية والبواغيز ومطار الجميل ومنفذ جمركي.

فيرفض "الجمل"، إخلاء "الفيلا"، التي يقطن فيها مع 6 من عائلته، ويقول إنه فوجئ دون إنذار مُسبق بالجرافات تهدم شرفة المنزل، وحين استوقفهم عرض عليه المسؤول عن عمال الهدم "تعويض مالي”، مضيفا: “طلب مني أن أترك الفيلا مقابل 80 - 150 ألف جنيه فقط، وهذا تعويض غير عادل ولا يتماشى مع القيمة السوقية الحالية لها. وضعت شقى عمري في هذه الفيلا لأسكن فيها مع والدتي وزوجتي وابني وزوجته وأحفادي، بعدما بعت شقتين كنت أمتلكهم لشراؤها في 2015، وتكلف إدخال المرافق إليها ما يقارب مليون جنيه، فهل أتشرد أنا وهم بعدما وضعنا فيها كافة مدخراتنا؟".

ويشير "الجمل" إلى أن الأسر القاطنة في الضاحية، ومنها أسرته، لا بديل لها إذا خرجت من منازلها، فالتعويض المقترح لن يوفر لهم بديلًا "كريمًا" كما يصف، في ظل الأسعار المرتفعة وأزمة السكن في المحافظة. متسائلا عن ماهية "التطوير" في المنطقة، بدون وضع بدائل لسكانه، وهو ما عبر عنه أحد جيرانه الذي كتب على منزله أنه "مدفن"، في إشارة إلى أن خروجه يعني وفاته.

استقرت الأسر في الضاحية وفقًا لعقود بنظام “حق الانتفاع” طويل الأمد، يعود إصدارها إلى عام 1978، حينما اعتمد اللواء السيد سرحان، محافظ بورسعيد آنذاك، قرار بتخصيص 50 فدانًا في المنطقة لأهالي المحافظة، واختص المجلس المحلي بتوقيع العقود مع المواطنين من الراغبين في التعاقد، على أن يحصل كل مواطن على 122 مترًا، مقابل ايجارًا سنويًا، على أن تجدد العقود سنويًا.

واستهدف القرار وقتها تخفيف الضغط على الأراضي المزدحمة بالمحافظة. فتسليم الأرض للمنتفعين كان مقابل البناء والتعمير. يمتلك السكان المباني، ولا يمتلكون الأرض.

في البدء كان التطوير

وبينما ظلت عقود الانتفاع السنوية تُجدد من قبل المحافظة، وظل المتعاقدين يدفعون إيجاراتهم، سواء ممن استأجر مباشرة من المحافظة أو ممن نقلت التعاقدات إليهم، فمع الوقت وأزمة توافر السكن في المحافظة، بدأ الأسر تزحف إلي الضاحية وتستقر فيها. إلى أن فوجئ الأهالي في عام ٢٠٢٠ بإعلان محافظة بورسعيد إلغاء العقود من جانبها، وعدم تجديد ترخيص الإشغال السنوي لأراضِ الضاحية، اعتمادًا على على قرار المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية في ديسمبر 2020 الذي جاء تحت عنوان "إعادة تخطيط وتطوير ضاحية الجميل".

وبدأت المحافظة ترسل إنذارات بالإخلاء إلى السكان.

ورغم الشكاوى والمحاضر والقضايا التي رفعها السكان وفقًا لعقود ملكيتهم، والمذكرة التي تقدم بها النائب أحمد فرغلي، عضو مجلس النواب مستقل عن محافظة بورسعيد، إلى مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، أوضح فيها أن العمليات المفاجئة جاءت دون قرار قضائي أو تنفيذي، ومطالبًا بالإيقاف الفوري لحين دراسة المقترحات والبدائل المختلفة والوضع القانوني للمنطقة، استمرت الجرافات في هدم المنازل.

وبينما كان منزلي إدريس والجمل، وقت إعداد القصة، ضمن 75 عقار فقط لم يلحقهم الهدم، ويقطن فيها أصحابها، لم يدم الوضع.


ففي 18 مارس، لحقت الجرافات بالعقارات المتبقية في الضاحية، لتفرغ المنطقة بالكامل من مبانيها وسكانها ولا يبق فيها إلا آثار الردم، بينما أضطر "إدريس" و"الجمل" إلى نقل أسرتيهم إلى شقق بالإيجار.

تصوير: صور من المصدر - جانب من عمليات الهدم بضاحية الجميل