بين الأطباق الصاج والجلود والخيوط والأخشاب، تجلس أسماء؛ تمسك المطرقة بكفّها لبدء يوم عمل طويل لصناعة "السمسمية"، الآلة التي تعشقها منذ صغرها، حتى صارت أول سيدة مصرية تصنعها هي والطنبورة.
"وكأن السمسمية هي النداهة التي سحرتني، فقد عشقت رقصها وغناها وعزفها، وحتى تصنيعها، تقول أسماء حمودة، 53 عامًا، وهي تطفئ وابور الجاز النحاسي بعد انتهاءها من إحدى خطوات مراحل تصنيع السمسمية، وتتذكر المرة الأولى التي قررت أن تجرّب صناعتها بنفسها: "في إحدى شوارع حي العرب تحديدًا في نهاية السبعينيات، طلب مني والدي الذهاب لكي أحضر وجبة الإفطار، فذهبت إلى عربة الفول الموجودة في آخر شارعنا وأنا امسك بيداي طبق صاج، ولكن قبل أن أصل إليها بخطوات معدودة غيرت مساري واستوليت على الطبق، وذهبت مسرعة لجلب جلد الأرنب الذي قد ذبحته أمي في الصباح، ومن قفص الخضار صنعت الذراع الخشبية وأحضرت خاتمًا قديمًا وخيط لصنع الأوتار، ومع التكرار أتقنت صناعة السمسمية، حتى أنني كنت أثناء دراستي أصنعها وأبيعها لزميلاتي في المدرسة مقابل 5 جنيهات فقط".
لم تكن أسماء وقتها قد تخطت ال10 أعوام من عمرها، بل أنها في الواقع قد بدأت رحلتها مع الفن في السابعة من عمرها كراقصة فنون شعبية لفرقة براعم الطفولة بقصر ثقافة بورسعيد، كما غنت أيضًا مع السمسمية، وفي ذلك الوقت كانت متيّمة بأغاني حسن العشري والوزيري وكابوريا، أشهر مغنيين السمسمية وقتها.
"لطالما كنت أريد أن أصبح فنانة، لكنني تركت الآخرين يتحكمون في مصيري، فمررت بكل المراحل الدراسية العادية إلى أن التحقت بكلية الطب، لكن كنت طوال الوقت غير مقتنعة أن هذا هو ما أريد استكمال حياتي فيه، وللأسف لم أستطع أن أتخذ هذا القرار إلا بعد أن قضيت في رحلة العمل الحكومية ما يقارب 19 عامًا، وقتها قررت التخلي عن مهنتي كطبيبة تشريح والتفرغ لصناعة السمسمية"، هكذا قالت أسماء لـ"البورسعيدية".
تخرجت أسماء من كلية الطب بجامعة عين شمس عام 1986 قسم هياكل وتشريح، وبالرغم من تفوقها الدراسي إلا أنها لم تحب مجال الطب منذ أول سنة درسته فيها، فكانت تذهب بعد المحاضرات لقضاء الوقت في شارع محمد علي بالقاهرة لتستمتع بالفن وتمارس صناعة الآلة بل وتبيعها لمن يريد.
استمر هذا الشغف حتى بعد عملها في مجال التدريس وتنقلت بين مستشفى عين شمس والقصر العيني حتى عام 2011، حيث قررت القيام بتسوية معاش مبكر، لتتفرغ أخيرًا لصناعة آلة السمسمية.
رغم أن الظروف ساعدت أسماء على تغيير مهنتها، ولكن مر عليها وقتًا ندمت خلاله على اتخاذ هذا القرار قائلة: "ندمت على قراري بسبب زوجي، فبعدما حصلت على مكافأة تسوية المعاش المبكر في عام 2013، كنت خائفة أن تختفي آلة السمسمية نظرًا لانخفاض أعداد المحترفين في صناعتها، ولذلك قررت أن أنفق المكافأة بأكملها على إقامة أول متحف من نوعه في مصر للسمسمية وأطلقت عليه اسم "التراثية"، وذلك بالشراكة مع زوجي محمد غالي، صانع السمسمية الشهير، وكان يضم المتحف نماذج عديدة للسمسمية توضح تطورها منذ 200 عامًا وحتى الآن، مثل آلة الطنبورة التي استخدمها كبار العازفين منذ عام 1948، وكذلك عددًا من الآلات مثل رباعي الجاندوه ورباعي السمسمية وكذلك السمتورة".
وأضافت: "شعرت وقتها بالندم الشديد بعد أن واجهت العديد من المشكلات المتكررة مع زوجي بخصوص الشراكة حول المكان، بالرغم من أنني أنفقت كل ما أملك من مال إيمانًا بهذه الفكرة، وبعدها قرر أن ينهي شراكته معي ويأخذ هو المكان لصالحه، ولكن لم تقف الحياة عند هذا التحدي حيث استأجرت إحدى من المحال من أقاربي وأكملت طريقي، رغم أني كنت أتمنى أن يكون هناك تقدير لمجهودي".
دراسة أسماء في قسم التشريح ساعدتها على امتلاك أدوات صناعة السمسمية والتمكن منها، ومن داخل ورشة متواضعة بحي الضواحي، استطاعت أن تبدأ رحلة تسويق للسمسمية في بلاد عديدة مثل فرنسا واليونان والسعودية والكويت حيث اشتهرت وسط عشاق فن السمسمية بـ "الدكتورة أسماء".
أما ارتباطها بالسمسمية تحديدًا فيعود أيضًا إلى اهتمامها وعلاقتها بالتاريخ، فالآلة ترتبط بشكل أساسي بفكرة "المقاومة" عند مدن القنال خلال العدوان الثلاثي ونكسة 67، فهي ليست مجرد آلة موسيقية، بل هي بالنسبة للأهالي رمزًا للأمل في العودة من التهجير.
تقول أسماء: "في آلات قديمة يبلغ سعرها 150 جنيهًا، وأخرى يصل سعرها لـ500 جنيهًا، بينما يبلغ سعر أغلى آلة 1700 جنيهًا، وتتعدد أنواع الآلات، فالآلة القديمة تتكون من الطبق الصاج وثلاثة أخشاب والخمس أوتار بتطويلها حتى يتمكن العازف من العزف عليها بسهولة ويسر، والسمسمية لها أسماء كثيرة منها الطنبورة التي جاءت لبورسعيد مع عبد الله كبربر من السويس وتم تصغير حجمها مع توارث الأجيال لها".
ترى أسماء أن أصعب تحد في تغيير المهنة هو القدرة على الحفاظ على دخل مادي جيد وثابت، خاصة حين يكون هناك من يعتمد على هذا الدخل، كما أنها لم ترد خذلان أي شخص في محيطها، وتضيف: "على عكس المعتاد؛ أولادي كلهم بيشدوا أطباق سمسمية ويساعدوني من وهما صغيرين".
وبصوت ممزوج بالتعب والشغف اختتمت أسماء حديثها قائلة: "الست تقدر تشتغل كل حاجة، أنا اتعودت أشتغل مع والدي من وقت ما كان عندي 6 سنوات في مهنة الصيد على قارب داخل الميناء، ومازلت بشتغل في صناعة مهمة زي صناعة السمسمية".