على شاطئ ميناء بورسعيد؛ تصطف القوارب الصغيرة في انتظار السفن التي تعبر قناة السويس، وعلى متنها يجلس "البمبوطية" يحمل كلًا منهم ما لديه من بضائع لعرضها على رواد السفن الكبرى بمجرد استقرارها على ميناء القناة،“تحف، تماثيل فرعونية، هدايا تذكارية، ملابس، وأجهزة كهربائية"، إما يبيعونها أو يقايضوها بسلع وبضائع أخرى.
لا تقف عائق اللغة أمام البمبوطي، بل يتحدث أغلبهم بطلاقة أكثر من لغة أجنبية حتى وإن لم يكن يحمل شهادة دراسية من الأساس، فالتحدث المستمر مع رواد السفن المختلفة دفعهم إلى ضرورة اتقان اللغات، فهي من روتين عملهم اليومي، مع فنون التجارة والبيع.
ويرتبط ظهور مهنة البمبوطي ببداية حفر قناة السويس عام 1859، واستقرار العمال القادمين من أبناء الصعيد ومدن الدلتا وقراها على سواحل بورسعيد، ليصل عددهم مع الافتتاح الرسمي للقناة في 1869 إلى قرابة 1000 عامل.
وتعود أصل الكلمة إلى "Boatman" أو رجل القارب كما كان يطلق عليهم الانجليز ذاك الوقت، بينما نطقها أهالي بورسعيد لتصبح "البمبوطي".
ومثلما جرت في القناة مياه كثيرة، تبدلت أحوال مهنة "البمبوطي" وصارت على حافة الاندثار، يعاني أصحابها من أجل البقاء، سواء بسبب قرارات صدرت أدت إلى صعوبة في تصاريح عملهم، فيما تصطف قواربهم على أرصفة الميناء تعاني التهالك والإهمال.
التغيير في دورية إصدار تصريح هيئة الميناء الخاص بعمل البمبوطية كان أولى شكاواهم، فبعدما كان يُستخرج كل ثلاث سنوات بشكل مجاني، لكنهم فوجئوا منذ أكثر من سنة بقرار باستخراج التصريح بشكل سنوي مقابل رسوم أعلى، بجانب إجراءات تستغرق وقتًا أكثر، مثل: “استخراج صحيفة الحالة الجنائية "فيش"، وجواب من نقابة البمبوطية، وموافقة التوكيل الملاحي بأنه لا مانع بعد موافقة القبطان، وموافقة المباحث بأنه لا مانع جنائيًا، وموافقة الأمن الوطني بأنه لا مانع سياسيًا، واستخراج تصريح سفر من الجوازات، وتفتيش البضائع من حرس الحدود".
كل ذلك جعل المراكب لا تعمل لشهور، وبعض أصحابها اضطروا إلى تحطيمها – وفقًا لشهادات بمبوطية التقتهم "البورسعيدية" - لزيادة تكاليف شغل مكان في الميناء دون مكاسب، مقابل تكدس البضائق داخل المخازن دون بيع.
محمود عبدالفضيل، 57 عامًا، يعمل ك "بمبوطي" منذ قرابة 44 عامًا، يقول بحسرة: "مقدرش أشتغل مهنة تانية أنا زي السمك معرفش أسيب البحر".
يتذكر محمود عمله منذ سنوات قاربت على النصف قرن، ويقول لـ"البورسعيدية"، إنه اعتاد الذهاب إلى الميناء في الساعات الأولى من الصباح منذ كان طالبًا في الصف الثاني الإعدادي، عندما اصطحبه زوج أخته للعمل معه على متن "لنش" تاجر مخلفات داخل الميناء، إذ واجه رحلة شاقة حتى أصبح بمبوطي معتمد.
ويضيف: "في البداية تشاركت مع صديقي في شراء لنش للعمل داخل الميناء، حتى صدر قرار بتوريث رخصة البمبوطي التي حصلت عليها من والد زوجتي بعد وفاته”.
يشير محمود إلى أن قرار هيئة قناة السويس بإلغاء توقف السفن في الميناء فاقم أوضاع البمبوطية، إذ أصبحت تتحرك من الغاطس مباشرة إلى داخل القناة، في الفترة ما بعد ثورة يناير 2011. بعكس الوضع الحالي ومنع السفن من الانتظار على الرصيف.
وعلى الرغم من حبه للمهنة، لم يشجع محمود ابنه يومًا على مزاولتها، يقول: “نعاني من النظرة الاجتماعية لنا في مصر، وهو أمر سببه قلة بيننا يختلقون المشاكل، بجانب التحديات التي نتعرض لها والمصاريف الكتيرة، فمثلًا أصرف على رحلتي للسفينة 3200 جنيهًا من مصروفات إيجار اللنش وإنهاء إجراءات السفر، ثم إيجار عربة لنقل البضاعة في العودة من بورتوفيق إلى بورسعيد، وهي رحلة تستغرق عشر ساعات لعرض البضاعة على متن السفينة، وبعد تحمل كل هذه المشقة، قد يرفض القبطان صعودي إلى السفينة بدعوى أنني جهة غير رسمية من الدولة، أو يمكن ألا يشتري منك الركاب فالأمر في النهاية هو رزق من الله".
لكن مصطفى نجل محمود عبدالفضيل، 23 عامًا، خريج كلية نظم ومعلومات، لازال يفخر بعمل والده، ويلتقط طرف الحديث منه ويقول: “أعتز وافتخر بمهنة والدي هي تراث عريق وتاريخ لبلدي، ودائمًا شعوري تجاهها أكبر من مجرد مهنة، وأنا مع قرار التوريث لأن هناك عائلات لا يمكنها إلا العمل كبمبوطية، وعلينا أن نسأل لو كان لديك منزل أو محل أثري، هل يمكن لأحد أن يمنعك من تركه لأولادك؟ بالطبع الإجابة بنعم تعد ظلمًا كبيرًا.. لذا طلبت من والدي العمل معه، لكن القوانين لا تسمح بمزاولة المهنة إلا لصاحب الرخصة فقط، والآن لا أنوي العمل كبمبوطي فلديّ عملي الخاص بإحدى شركات الملاحة، ولكن مهنة أبي لها قيمتها التي تعكس صورة المصريين وثقافتهم لدى الدول الأخرى".
يقطع محمود عبدالفضيل حديث نجله ويفسر لماذا أبعده عن مهنة البمبوطي، ويقول: “بعد رجوع أهل بورسعيد من التهجير كان رصيف الميناء خلية نحل.. لكن الآن الأوضاع ساءت، ولذا اختفت مهن عديدة كانت مصدر للرزق مثل الترزي الذي يعرض على السائحين تفصيل الملابس، والحاوي الذي يقوم بعرض ترفيهي على متن السفن، والحلاق والجزمجي وغيرهم من مهن".
بعد كل هذا يمكن أن نقول أن هذه التجارة أصابها الكساد، وباتت مهنة البمبوطية مهددة بالاندثار، في ظل غياب البدائل التي توفر لأصحابها حياة كريمة.
في ديسمبر الماضي، وافق المجلس التنفيذي لمحافظة بورسعيد على طلب النائب عادل اللمعي عضو مجلس الشيوخ، وطلب رئيس غرفة الملاحة ببورسعيد، بشأن توريث رخصة البمبوطي للابن فقط.
يقول عصام عبدالمقصود، رئيس نقابة البمبوطية، أن النقابة تطالب بتوريث الرخصة أيضًا إلى زوج الابنة إذا كان صاحب الرخصة لم ينجب ذكورًا، أو شقيق الزوجة، ويضيف: "حتى وقتنا هذا لم تُنفذ مطالبنا للحفاظ على المهنة ومنعها من الانقراض".
ويشير عبدالمقصود إلى مشكلة "عُمال الرباط"، وهم المسؤولين عن مرافقة السفن عبر "لنش" صغير لإصلاح أية أعطال فنية بها، وتابعين لهيئة قناة السويس، ويتقاضون أجورًا شهرية وتأمينات مثل أي موظف.
يقول:”للأسف يستغلون فرصة التواجد مع السياح ويعرضون بضائع مثل البمبوطية بأسعار أقل بالطبع لأنهم لا يتحملون أية مصاريف مثل التنقل والتصاريح، وهذا تعدي على مهنة البمبوطي، ومنذ شهور قمت بإبلاغ الجهات المعنية، وقاموا بتفتيش مفاجئ على السفن وصادروا بضائع عمال الرباط، ولكن سرعان ما عادوا مجددًا للفعل نفسه".
واستكمل: "لدينا في النقابة 310 رخصة بمبوطي مسجلة، 200 منهم فقط يمارس المهنة والباقي هم البمبوطية من كبار السن، وأسعى دائمًا لتلبية احتياجاتهم ومساعدتهم عن طريق صندوق الخدمات لتوفير مصاريف تجديد التصريح، ودفع اشتراكات النقابة والجمعية والزمالة، وإعطاء مبالغ مالية في الحالات المرضية أو الوفاة".
ولهذه المهنة رخصة موروثة عن الأب والجد، لذلك يختار الوريث الحاصل على الرخصة إذا كان سيزاول مهنة عائلته أم سيكتفي بصرف العائد السنوي الذي يحصل عليه من خلال الحصة الاستيرادية، والتي خصصها الجهاز التنفيذي في عام 1982 كمساعدة للبمبوطية في فترات الركود على مدار السنة.