"لم يسألني أحد إن كنت أوافق على هذا الصلح أم لا، وكأن رأيي لا قيمة له، رغم أنني الأكثر ألمًا بعد قتل ابني الأعزب، ومع ذلك، حين اجتمع رجال المصالحات ليقرروا مصير القضية لم يستشيروا سوى رجال العائلة، وكأن حزني لا يهم وأمومتي لا تكفي ليكون صوتي مسموعًا بينهم".
بهذه الكلمات، التي يختلط فيها الألم بالخذلان، تروي هدى عثمان، ربة منزل من محافظة المنيا، تجربتها المريرة مع الجلسات العرفية، التي وجدت نفسها مجبرة عليها بعد أن فقدت ابنها قبل عشر سنوات في حادث قتل غادر.
في بداية العام 2024، خرج القاتل من السجن بعد أن قضى عقوبته سبع سنوات. حينها، اجتمع رجال لجان المصالحات في القرية وقرروا أن تُدفع دية قدرها 500 ألف جنيه لـ"هدى" نظير قتل ابنها وإتمام الصلح بين العائلتين.
محاكم موازية
تستكمل هدى حديثها لـ"المنياوية": "كنت أتمنى أن يؤخذ رأيي في الاعتبار، فأي مال في العالم لن يعوضني عن فقدان ابني. وإن كان الصلح أمرًا لا مفر منه، فقد كنت أرغب في أن يحمل القاتل كفنه بيديه أو يغادر القرية إلى الأبد. لكن لا القانون أنصفني، ولا العرف، وكأن كليهما تواطأ على إذلالي".
هدى ومها وغيرهن من نساء المنيا يجدن أنفسهن مجرد ظلال في مشهد العدالة العرفية، إذ يتعرضن للظلم وإهدار الحقوق؛ نتيجة الاحتكام إلى جلسات عرفية غير قانونية في جرائم مثل القتل والابتزاز تصدر فيها أحكام غير عادلة، وتناقض مواد القانون المصري.
تنص المادة 95 من الدستور المصري على: "العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون، ولا تُوقّع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون".
لكن الجلسات العرفية تشبه هيئة محكمة تُشكل في قرى الصعيد من كبار العائلات وتسعى إلى إنهاء النزاعات، حيث تبدأ بالعفو وتنتهي بالدية أو الكفن، وتختلف الأحكام من مكان إلى آخر، لكنها في المنيا تصدر أحكامًا تجير على حقوق النساء دون اللجوء للأحكام القضائية، بحسب ما وثق معد التقرير.
حين يحجب صوت الضحايا
لم تكن هدى الوحيدة التي تعرضت للظلم بسبب تهميش صوتها في المجالس العرفية. مها محمد، 25 عامًا، من المنيا، واجهت المصير نفسه.
تروي قصتها: "في عام 2023، تعرضت للتشهير بعد أن نشر أحد أبناء قريتي صوري الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي. كنت أرغب في اللجوء إلى القضاء لاستعادة حقي، لكن عائلتي رفضت بشدة، بدعوى ألا نفضح أنفسنا لذا لجؤا إلى الجلسات العرفية".
عندما بدأت الجلسة، لم يُتح لـ"مها" حتى فرصة الدفاع عن نفسها، بينما مُنح الجاني المساحة الكاملة لسرد روايته أمام اللجنة، مدعيًا أنها هي من أرسلت له الصور، رغم إنكارها القاطع لذلك.
ومع ذلك، قوبلت روايته بالتصديق، ليس لوجود دليل، ولكن لأنه تحدث بثقة أمام الجميع، وفي النهاية، جاء الحكم تعويض مالي قدره 20 ألف جنيه، واعتذار الجاني لعائلتها أمام الحضور.
تتساءل مها بحسرة: "هل يعوضني هذا الحكم عن تشويه سمعتي؟ هل يعيد لي كرامتي؟ ألم يكن من حقي أن يحاسب الجاني بالقانون؟، أنا لا أزال متضررة حتى اليوم، ليس فقط مما حدث، ولكن أيضًا من الحكم الذي لم ينصفني".
مخالفة قانونية
الحكم الذي أصدرته الجلسة العرفية في قضية "مها" يتعارض بشكل صارخ مع المادة 57 من الدستور المصري (2014 والمعدل عام 2019)، التي تؤكد على حرمة الحياة الخاصة وسرية المراسلات بكافة أشكالها، وتحظر انتهاكها بأي وسيلة.
كما يتناقض مع قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018، الذي ينص على معاقبة من ينشر صورًا أو معلومات شخصية دون إذن بهدف التشهير أو الإضرار بالسمعة بالسجن لمدة تصل إلى 3 سنوات، إلى جانب غرامة تتراوح بين 50 ألف و100 ألف جنيه.
ورغم وضوح هذه النصوص القانونية، اختزل حكم الجلسة العرفية الجريمة في تعويض مالي واعتذار.
هدم مبدأ المساواة
توضح هالة دومة، المحامية المتخصصة في قضايا المرأة، إن العرف هو تقليد مجتمعي اكتسب طابعًا قانونيًا، لكن المجالس العرفية ليست الجهة المختصة بتطبيق هذا العرف، لذا لا بد من وجود رقابة على هذه المجالس لضمان عدم إلحاق الضرر بالنساء مثلما حدث مع هدى ومها.
تقول لـ"المنياوية": "المجالس العرفية تهدم مبدأ المساواة، ليس فقط تجاه المرأة، بل أيضًا تجاه الأقليات، مما يستدعي حظرها دستوريًا، خاصةً أن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني، مما يعني أن هذه المجالس قد تجرم أفعالًا غير مجرمة قانونيًا بناءً على الأعراف".
يتسق ذلك مع ورقة بحثية أعدها المحامي صبري حسن بعنوان "المجالس العرفية في ميزان القانون"، ونشرتها مؤسسة تمكين للمحاماة والقانون، خلصت إلى أن القانون هو المرجعية الوحيدة في تحديد الجرائم والعقوبات، مما يجعل تدخل المجالس العرفية في القضايا الجنائية مخالفًا للدستور، إذ لا يجوز لها إصدار أحكام أو فرض عقوبات تتجاوز سلطة القضاء.
وأكدت الورقة أن المجالس العرفية تقوم بجرائم دستورية في القضايا والنزاعات التي تفصل فيها ولا تلتجأ للقضاء لا سيما في قضايا النزاعات الطائفية.
بينما يوضح المستشار القانوني، محمود الروبي، أن إنهاء النزاعات يتم إما بالقضاء أو بالتراضي، حيث تسعى الجلسات العرفية إلى حل النزاعات بشكل رضائي، وينتج عن هذه الجلسات اتفاقية مكتوبة تقر بانتهاء النزاع بالصلح.
ويشير لـ"المنياوية" إلى أن المادة رقم 27 لسنة 1994، تنص على ضرورة إبرام اتفاق تحكيم بين أطراف النزاع، يتضمن القواعد المطبقة، الإجراءات المتبعة، وطريقة اختيار المحكم الممثل لكل طرف، ويجب أن يتم توثيق ذلك كتابةً.
وفي الوقت نفسه، يرى أن الحل الأمثل هو اللجوء إلى القانون، لأنه يضمن الاستماع إلى جميع الأطراف دون تمييز، وإصدار أحكام تتماشى مع نصوص القانون المصري والدستور.
تمييز وعنف ضد المرأة
تتشارك آمال عبدالله، ربة منزل من المنيا، المعاناة مع هدى ومها، بعدما استولى شقيقها على ميراثها، وحاولت اللجوء إلى أحد رجال المصالحات، لكنه لم ينصفها، معتبرًا أن "الرجل أولى". حتى زوجها هددها قائلًا: "إن رفعتِ قضية، سأطلقك".
بين العادات الظالمة والخوف من التمزق الأسري، وجدت آمال نفسها بلا حق، تقول لـ"المنياوية": "أخذوا حقي وحين لجأت إلى الجلسات العرفية لم ينصفني أحد، إلى متى ستظل المرأة محرومة من حقوقها تحت مظلة التقاليد؟".
إذا لجأت مها إلى القضاء كان سيحكم على شقيقها بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر وغرامة قد تصل إلى 100 ألف جنيه، وفق المادة 46 من قانون المواريث رقم 77 لسنة 1943 المعدل سنة 2017، والذي ينص بهذه العقوبة على كل من امتنع عن تسليم الوارث نصيبه الشرعي، كما تعاقب كل من حجب أو امتنع عن تسليم مستند يثبت ميراثًا بالحبس 3 أشهر وبغرامة لا تقل عن 10 آلاف جنيه.
تظهر الفجوة بين القضاء المصري وأحكام الجلسات العرفية، في المادة 11 من الدستور المصري التي ألزمت الدولة بتحقيق المساواة بين المرأة والرجل فى جميع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحماية المرأة من كل أشكال العنف، والقضاء على التمييز ضد المرأة وفقاً للمادة 53 من الدستور.
إلى جانب الدستور المصري، تخالف الأحكام الصادرة عن الجلسات العرفية اتفاقية مناهضة جميع أشكال التمييز ضد المرأة، التي وقّعت عليها مصر، إذ تنص الاتفاقية في مادتها الأولى على حظر أي تفرقة أو تقييد قائم على النوع الاجتماعي يضعف الاعتراف بحقوق المرأة أو يمسّ تمتعها بها.
كما تؤكد المادة 13 من الاتفاقية على ضرورة اتخاذ الدول تدابير تضمن المساواة في الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، بما في ذلك الاستحقاقات العائلية، وهو ما يتناقض مع واقع الجلسات العرفية التي تجور على حقوق النساء.
جلسات عرفية بلا نساء
لذا تؤكد هالة دومة، أن الحل القانوني يكمن في عدم السماح للأفراد باللجوء إلى هذه المجالس، مشددة على أنه إذا كان القانون قادرًا على حماية المواطنين، فلن يكون هناك حاجة للجوء إلى المحاكم العرفية.
بينما تكشف الدكتورة جيهان النمرسي، أستاذة علم الاجتماع، جانب آخر للأزمة، وهو غياب العنصر النسائي في الجلسات العرفية والذي يعد تمييزًا ضد النساء، حتى وإن كان الرجال من كبار القرية.
وتقول لـ"المنياوية": "بعض الأحكام العرفية قد لا تتناسب مع العصر الحالي، وفي بعض الأحيان تظلم المرأة، لذا لا بد من وجود امرأة من كبار سيدات القرية ضمن لجان المصالحات، لأن المرأة تفهم طبيعة النساء بشكل أعمق".
لكن محمود فراج، أحد رجال المصالحات بالمنيا، امتنع عن الإجابة عند سؤاله عن سبب عدم وجود سيدات ضمن لجان المصالحات للاستماع إلى أقوال الضحايا، خاصة في القضايا التي تكون فيها المرأة طرفًا في النزاع.
ورد خلف عبدالستار، أحد رجال المصالحات بالمنيا، عن مشاركة النساء قائلًا: "في مجتمعنا، لن يقبل الرجال أن تجلس امرأة وسطهم وتفصل في النزاع ويسير حكمها على الجميع".
ويؤكد فراج لـ"المنياوية" إنهم يستندون في أحكامهم إلى دستور حمورابي (مجموعة قوانين بابلية يبلغ عددها 282 مادة قانونية سجلها الملك حمورابي سادس ملوك بابل) بالإضافة إلى الشريعة الإسلامية.
ويوضح لـ"المنياوية" أن الأحكام تصدر بعد استماع خمسة محكمين إلى طرفي النزاع، وبعد التشاور بينهم يصدر الحكم، مشيرًا إلى أن لجان المصالحات تسهم في تسوية النزاعات لتجنب طول أمد التقاضي في المحاكم.
صلاحية القضايا الجنائية
بينما تؤكد الدكتورة جيهان، أستاذ علم الاجتماع، على ضرورة اللجوء للمحاكم الرسمية حتى يكون الحكم عادل: "المحاكم العرفية قد تعتبر حلاً أسهل، لأن الحكم يصدر عن أحد كبار القرية، وهو شخص يكون معروفًا ومتراضيًا عليه من جميع الأطراف.
فيما يوضح المستشار الروبي، أن القانون يسمح بعقد الجلسات العرفية وفقًا لضوابط محددة، حيث لا يُسمح لأي من المحكمين بإصدار حكم فردي دون موافقة باقي الأعضاء، مبينًا أن الوثيقة التي توثق فض النزاع معترف بها قضائيًا في مصر، بشرط أن تستوفي الشروط القانونية.
ويوضح أن أي اتفاق بين الأطراف يكون مشروعًا طالما لا يتعارض مع النظام العام أو الآداب العامة في الدولة، وهو ما لم يحدث في حالات مها وهدى وآمال، إذ أن اللجان العرفية ليس لها صلاحية للحكم في القضايا الجنائية مثل القتل والابتزاز.
ترفض هدى الاعتراف بحكم الجلسة العرفية والدّية التي لم تعوضها عن ابنها، بينما تتمسك مها بحقها الذي أهدِر في قضية الابتزاز، وتسعى آمال لأخذ ميراثها بعدما جارت عليها الأعراف. وفي ظل استمرار هذه الممارسات، تبقى النساء في المنيا أسيرات أحكام عرفية لا تنصفهن، بينما يظل الطريق إلى العدالة مسدودًا أمام أصواتهن المغيبة.
جميع أسماء السيدات المذكورة في التقرير مستعارة حفاظًا على خصوصيتهن.