ما هذا؟ أين أنا؟ لِمَ فمي مفتوح! ياه إنني أشعر بطول جسدي، كيف ذلك! إن أقدامي قصيرة وفمي قد طال، ياه إن أسناني قد زادت عددًا؛ ما هذا التغير الذي أنا فيه؟ هذه الأفكار تدور في عقلي، أغلقتُ فمي فجأة دون سابق إنذار، لأجد أن شيئًا يتحرك ويضرب أسناني بالداخل، وأصوات صراخ وسباب يخرج من فمي دون أن أتحدث!
حينها أدركت أن شيئًا داخل فمي يتحدث، ففتحت جزء صغير من فمي فخرج شيء بسرعة لم أستطع مُلاحظته بسبب سرعته، واستمر الصراخ والسباب لأدرك أن السبب في ذلك هو أحد الطيور الذي لا أعرف نوعه، وأخذ يصرخ قائًلا: ما هذا يا كال أتُحاول أن تأكلني؟ بعد طول هذه العشرة تريد أن تتخلص منّي أنا صديقك وصاحبك المقرب والمخلص لك، ومُخلّصك من بقايا الطعام في فمك، أهذا جزاء ما فعلته طيلة مدة خدمتي لك؟ أهذا ما أستحقه منك؟ سأخاصمك ولن أعود وأتحدث معك مرة أخرى.
تكلّم سريعًا دون توقف أو أخذ نفس واحد، وأنا هنا غير مستوعب لِمَ يقول هذا؟ وكيف لطائر أن يتحدث؟!!! ومن كال هذا الذي يتحدث عنه؟ لقد وجدت نفسي في هذه الهيئة الغريبة التي لا أعرف لمن هذه، كل ما أتذكره أنني أحمد طالب في كلية الآثار، محب للموسيقى والقراءة بعض الشيء، لا هدف لي في الحياة، أحب اللعب واللهو ولا أفعل أي شيء مفيد في حياتي.
دخلت كلية الآثار رغم كرهي للتاريخ والآثار، ولكن ماذا أفعل! فبسبب درجاتي منخفضة اضطررت للدخول فيها، وفي سنتي الأولى بالكلية ذهبنا ببعثة إلى أحد المعابد، لنقوم بالتنقيب والدراسة مع الوفد القادم من إحدى الدول الأوروبية، لم يُعجبني الأمر ودخلت فيه رغم كرهي له، ولولا حبي وعشقي للسفر ما ذهبت.
وعند وصولنا للمعبد استقبلنا أحد المشرفين لنبدأ الجولة، ما هذا المكان! يا إلهي كيف بُني هذا المكان؟ أعمدة طويلة وتماثيل ضخمة، ما كل هذه التماثيل؟ لِمَ هي لنفس الحيوان وبجواره طائر صغير؟ بدأ المحاضر الشرح وأنا لا ألقي بالًا له، وبدون أن يلاحظني تسللت في الخفاء لأتجول بمفردي، بدلًا من الاستماع إلى كلام تافه عن عصور قد ولّت، وليس فيها أي نفع. وخلال جولتي السرية دخلت لغرفة ضخمة أضخم من أي غرفة قد دخلتها من قبل، بها مائة من السلالم العريضة وآخرها تمثالين كبيرين، يحمل أحدهما كتابًا مُميزًا لم أهتم به، والآخر يحمل مفتاحًا وخلفهما يقبع باب دائري عليه نقوش غريبة، لم أعرف ما هي ولم أفهم، ولكن شكلها جميل وألوانها ساطعة زاهية، فقررت التقاط صورة "سيلفي" وعند اتّخاذ وضعية الصورة، ضغطت دون قصد على الباب، فظهر نور ذهبي شديد دفعني لإغلاق عيناي بسببه؛ لأجد نفسي في هذا الجسد الغريب وأتحدث لهذا الطائر الصارخ.
كل هذه الأحداث أخذت تتدفق إلى عقلي دون توقف، مع كمّ الأسئلة التي فكّرت فيها، ووسط صراخ الطائر الذي لا يزال يناديني كال، يا كال ما هذا؟ هل ما زلت هنا؟ كااااال ردّ علي؛ حينها خرجت مني بعض الأسئلة لا شعوريًا من أنا وأين أنا؟
ظهر الاستغراب يشوبه بعض الغضب على وجه الطائر، وصمّت لوهلة، لينفجر بعدها صارخًا؛ هل فقدت عقلك يا كال؟ ما هذا الذي تهذي به؟ هل ضربك أحد على رأسك؟
طال صمتي حتى هدأ الطائر وأصبح وجهه يحمل علامات الاستغراب فقط، فقال لي: هل حقًا لا تعرف من أنت، أو أين أنت؟ فظللت في صمتي ونظرة الحيرة تعلو مُحياي، حينها أدرك الطائر حقيقة أنني فعلًا لا أعرف، فأخذ شهيقًا كبيرًا ثم أطلقه بقوة، وهدأ أخيرًا وبدأ يتكلم بصوت هادئ، إذًا سأجاريك في هذا يا كال، أنت تمساح اسمك كاليبيوس ابن تيموس ووالدك يسمى تيموس ابن أودس ملك مملكة التماسيح ونحن في البركة المقدسة داخل قصر والدك.
ها ما كل هذا! أنا تمساح! كيف؟ ألم أكن بشريًا! هل جننت؟ فقلت فزعًا للطائر: اضربني أو اقرصني لعلني أستيقظ من نومي، وما إن فعل، توجعت قائلًا آه لما فعلت هذا؟، فأجاب: أنت من طلبت ذلك، فقلت: إذًا أنا في حقيقة وليس خيالًا، حينها دخل طائر آخر مسرعًا مناديًا: يا سمو الأمير كاليبيوس، إن والدك يناديك لغرفة العرش.
دخلت غرفة كبيرة، وعندما ألقيت عليها أول نظرة، تذكرت حينها تلك الغرفة المقيتة، سبب كل ما أنا فيه، الآن تحدثت مع والدي في أمور كثيرة لم ألقْ لها بالًا، فهو يتحدث وأنا أجيب بكلمة نعم نعم نعم دون الوعي بما يقول، أو ما أقول.
وبعد خروج والدي من الغرفة، أخذت أتجول فيها، واستكشف مُحاولًا لإيجاد طريقة أعود بها إلى عالمي، وصلت للباب الدائري ووضعت يدي على المكان الذي ضغطت عليه سابقًا، ولكن لا شيء يحدث، أخذت أعيد التجربة أكثر من مرة، ولا شيء يتغير.
وصلت للمرة المئة، عندها استسلمت وغبار اليأس بدأ يتسلل داخل عقلي، وبدأت أفكر في كيف أعيش في ذلك العالم، وبدأت أعدد سلبياته وإيجابياته، وأنا غارق في هذه الأفكار، وقعت عيني على التمثالين الكبيرين، ما هذا؟ أين الكتاب والمفتاح؟ أين اختفوا؟ ألهذا لم يعمل الباب؟ عندها صرخت بصوت عالي أبااانوب، وهذا اسم الطائر الذي كان معي فقد اتضح أنه مساعدي الشخصي، وسألته مُتحمسًا أين الكتاب والمفتاح اللذان كان على هذين التمثالين؟ فقال مُتعجبًا: ألم يقل لك والدك إن بسبب بلوغك لسن الرشد ستقام منافسة لك لاختبارك إذا كنت مؤهلًا لتصبح الملك القادم أم لا، ولو نجحت ستتسلم الكتاب وأما المفتاح فلا يعرف مكانه سوى الملوك، فإن الأسطورة تقول أنه يُخفي سرًا كبيرًا، سألت فرحًا كيف يكون هذين الاختبارين؟ قال لا أحد يعرف ماهية الاختبارات، وسوف يكون الاحتفال غدًا صباحًا.
حينها أدركت ما كان يقول لي أبي وأنا كنت أقول نعم، دون أن أدري، أخذت الأسئلة تتسابق لدخول رأسي، ومع كل سؤال يدخل، يتغير فيها شعوري مرة فرح و أخرى حزن، وتارة حماس، ومرة ثانية اكتئاب ويأس، حتى الأمل شعرت به، وظلّت الأسئلة تتداخل، وظل شعوري مُتلونًا لا يثبت عند حال، حتى غلبني سلطان النوم، وسلّمت رأسي للنوم، فغدًا يتوقف عليه مصير ما هو آتِ.
صدح صوت قائلًا: سيداتي سادتي، دعونا نرحب بجلالة الملك تيموس والأمير كاليبيوس، لقد اجتمعنا اليوم في عيد ميلاد ولي العهد الأمير "كاليبيوس" للاحتفال ببلوغه سن الرشد، واختباره الذي سيُقام لتحديد قدرته على استلام العرش، نبدأ بأول اختبار الذي سيحصل فيه على كتاب الزمن بعد خوضه لبركة الزمن المقدس، فليبدأ الأمير.
حينها أطلقت الأبواق نفيرها، ليبدأ الاختبار، وبدأت بالتحرك في البركة مُتفاديًا العقبة واحدة تلو الأخرى، ورغم الصعوبة وفشلي، إلا أنني لم أستسلم وأعدت الكَرّة مرة أخرى حتى وصلت، وصلتُ أخيرًا للكتاب، أخذته بين يدي لأجد نفسي رجعت إلى المنصة فجأة، وحولي الناس يصفقون ويهنئون، وعاد الصوت قائلًا: هنئوا أميركم على اجتياز أولى الاختبارات وفوزه بكتاب الزمن الذي يحمل جميع أمجاد أسلافه العظام، ووضع أولى الخطوات على سُلّم المجد والسلطة.
وبعد الراحة لبعض الوقت، علا الصوت قائلًا: والآن سنبدأ الاختبار الثاني، احضروا السائل المقدس للأمير فهو المفتاح ليفتح آفاق عقله لكيفية الإدارة والحكم.
نزل طائران كبيران، وهما يحملان كوبًا صغيرًا مليئًا بسائل ناصع البياض له رائحة جميلة، فقال الطائر اشرب يا أمير ليُفتح عقلك ولتفتح لنا أبواب الأمجاد والمستقبل.
شربته على دفعة واحدة لأسقط على الأرض مرة واحدة، وأخذت الصور والمواقف تتلاحق داخل عقلي، حتى شعرت به ينفجر، وبعد مرور ساعات من المعاناة، فتحت عيني ووقفت بصعوبة، وأنا أشعر بالتعب الشديد، حينها صاح الطائر: هنيئًا لأميركم، هنيئًا لأميركم على نجاحه في استيعاب خبرات أسلافه وحياتهم، حينها أدركت وفهمت وتخزنت الخبرات داخل رأسي.
أدركت أن تاريخ وتفكير وأسرار كل الملوك الذين سبقوني، وحتى والدي له أسراره أيضًا، وقد عرفتها، ولكن أين المفتاح لماذا لم يظهر؟ عندها بدأت أفكر وأبحث في ذاكرتي وفي ذاكرة كل أسلافي، وجدته! إنه في مكان سري تحت عرش والدي.
دخلت لغرفة العرش وحدي، وأخذت أبحث عن المفتاح ووضعته في مكانه، ووضعتُ الكتاب أيضًا، حينها صدر صوت مفاجئ، يدلّ على خروج شيء، ضغطتُ على ذلك الزر الذي خرج، وعاد اللون الذهبي مرة أخرى، لأفيق في نفس المعبد السابق وكل شيء كما كان، ولكن تفكيري وحياتي لم تعد كما كانت.