لم تشرق الشمس بعد، حين وقف «إبراهيم» على أول شارع منزله يستعيد الذكريات التي مر عليها زمن طويل. يقف منتظرًا قدوم سيارة كي يبشر ذويه بعودت خاله «محمود» بعد غياب، إذ سافر منذ سنوات إلى أمريكا للدراسة وعاد لتوه.
حين وطأت قدم محمود المنطقة وجد أنها تغيرت معالمها بالكامل، تبدلت أسقف الطوابق الأخيرة من الخشب والصفيح إلى الخرسانة، دبت الحداثة في الشارع الذي كان يلعب فيه وهو صغير لتجعله مختلفًا عما كان عليه.
منذ سنوات حين تخرج محمود قرر أن يحصل على الماجستير من أمريكا بمنحة تفوق على أن يقضي عامين ثم يعود لأهله، ويستكمل دراسته هنا في إحدى الجامعات المصرية.
ذلك الحلم الذي عارضه قديمًا والده عبدالنعيم، إذ كان مقتنعًا بأهمية الوظائف الحكومية وضرورة عمل محمود معهم في التجارة، إلا أنه أدرك الآن خطأ معارضته، بعد الصيت الذي أحدثه في المنطقة بعودة ابنه الدكتور الجامعي من أمريكا.
كان يجلس ابن شقيقته إبراهيم في آخر شارع منزلهم في انتظاره، يحدق بشدة في الطريق، حتى رأى سيارة قادمة وصاح: «خالي البيه وصل» ضحك الجميع وخرجوا لاستقباله.
استيقظت المنطقة على صوت زغاريد أشقائه، وما إن جاء النهار حتى امتلأ المنزل بالتهاني، وكان يستقبلها محمود بحميمية شديدة فلم تغيره الغربة عن أصله وأهل منطقته، لم يتغير حتى في الاستعانة بـ«إبراهيم» في قضاء حاجته.
كان دومًا يقول لي: «إبراهيم أذهب، أحضر لي هذا، ضع النظارة أبحث معي..»، الآن قضى معنا أشهر وهو غارق في عمله بالجامعة، بالكاد يراه أهل البيت، حتى في جلسته يكون منعزلًا عنهم».
ربما لو كان والديه على قيد الحياة، قد كان الحال تغير، كنت أشعر بما يعانيه من وحدة، في كل مرة حاولت أن أدفعه إلى أهله الذين يحبهم ويحبونه لكن دون فائدة، ترددت مرارًا لو إنني سألته لما لا يفكر في الزواج بعد؟، لكن خوفي من أفعاله غير المتوقعة كان يجعلني أتراجع.
إلا أنه في يوم نالت فتاة استحسان محمود من بين كل الطالبات، وحين نادى على اسمها الثلاثي بين كشف الغياب، زاد إعجابًا بها وعرفها تمامًا، كانت «أمل» تنتمي إلى عائلة «قاسم» إحدى العائلات المتدينة ذات العلم الوفير، أكثر أفرادها التحقوا بالجامعات، فكان ذلك سببًا في نفور البعض منهم بسبب فارق العلم والمال، على رأسهم عبدالنعيم.
أوشك مشروع زواج على الحدوث بين العائلتين على يد محمود وأمل، إلا أن الأخيرة كانت تتعالى عليهم بسبب رجاحة كفه المتعلمون من عائلتها بكفة ما يملكون من أموال في عائلة محمود.
باتت أمل سببًا لأيام من المشاحنات بين العائلتين ووجهت إهانات لأمه وأبيه، ولم يستطع إبراهيم أن يبقى احترام لأصحاب المنزل، لكنه اتخذ موقفًا ضبابيًا فكلهم أحبابه، خاصة خاله محمود الذي دفن حزنه في قلبه.
وحين عاد يطلب منه الحضور إلى غرفته، لم يذهب إلا بإلحاح من والديه، كان يلتفت حول نفسه ظنًا منه أنه أضاع نظارته المثبتة أعلى رأسه كالعادة، فأوقفه إبراهيم ساخرًا: «هل أضعت شيئًا غير نظارتك أعلى رأسك؟»، فأجابه مستنكرًا وهو يتحسس نظارته على رأسه قائلًا: «لا بأس».