من العنف النفسي إلى الجسدي، تعيش رانيا محمد (اسم مستعار)، طالبة جامعية من مدينة أسوان، حياة تصفها بالقاسية مع أسرتها المكونة من أب وشقيق، اللذين يفرضان عليها قيودًا صارمة تحدّ من حريتها، مستخدمين التهديد والإهانة وسيلة دائمة في التعامل معها.
تقاوم رانيا أحيانًا وتلجأ إلى أنشطة للانشغال عما تتعرض له في أحيانٍ أخرى، ورغم محاولاتها للمقاومة، تجد نفسها عالقة بين الخوف من العقاب والسعي للعيش دون عنف أو ترهيب: "في محيطي أجد نساء أخريات يتعرضن للعنف والضرب من الأهل لا سيما الأشقاء لكن كلنا لا نعرف ماذا نفعل؟".
اختفاء مراكز استضافة المعنفات
لا تعرف رانيا أن هناك ما يسمى بـ"مراكز استضافة المرأة المعنفة"، وحتى أن علمت فإن محافظة أسوان التي تقطن بها لم تشملها وزارة التضامن بتلك المراكز: "حين أتعرض إلى الضرب أو العنف الجسدي لا أعرف إلى أين أذهب".
في العام 2005 أطلقت وزارة التضامن الاجتماعي مشروع "مراكز استضافة المرأة المعنفة"، بهدف استضافة المعنفات مؤقتًا بحد أقصى 6 أشهر، مع إمكانية التمديد بقرار من اللجنة المركزية بقطاع الشؤون الاجتماعية، ويوجد 8 مراكز لاستضافة المرأة على مستوى الجمهورية، في القاهرة والجيزة والإسكندرية وبني سويف والدقهلية والمنيا والفيوم والقليوبية.
لم تكن أسوان ضمن المحافظات التي أنشأت فيها التضامن مراكز استضافة المعنفات، لذا لا تجد رانيا وغيرها من النساء المعنفات مكانًا آمنًا يلجأن إليه عند التعرض للعنف، ما يضطرهن إلى تحمل الألم داخل منازل الأب أو الزوج، ويجدن أنفسهن عالقات في دائرة من الانتهاكات دون ملجأ أو دعم حقيقي، في ظل غياب رقابة وزارة التضامن الاجتماعي.
يتعارض عدم وجود مركز استضافة النساء المعنفات في أسوان، مع نص المادة 59 من الدستور المصري الذي يؤكد: "الحياة الآمنة حق لكل إنسان، وتلتزم الدولة بتوفير الأمن والطمأنينة لمواطنيها، ولكل مقيم على أراضيها". كما تنص المادة 93 على أنه :"تلتزم الدولة بالاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي تصدق عليها مصر، وتصبح لها قوة القانون بعد نشرها وفقاً للأوضاع المقررة".
تزايد أعداد المعنفات
وفق تقرير مشترك لمؤسسة قضايا المرأة، حول الاستعراض الدوري الشامل، شهد مصر تزايدًا في معدلات العنف الجسدي ضد النساء في الفترة من 2019 إلى 2024. وبحسب المسح الصحي للأسرة المصرية لعام 2021، ارتفعت نسبة النساء المتعرضات للعنف الجسدي من أزواجهن إلى 17% ممن سبق لهن الزواج، مقارنة بمسح مشابه أُجري عام 2014، إذ أظهر المسح أن ثلث النساء اللاتي سبق لهن الزواج قد تعرضن للعنف من أزواجهن.
وأفاد التقرير بأن أكثر أنواع العنف شيوعًا هو العنف الجسدي بنسبة 26%، يليه العنف النفسي بنسبة 22%، ثم العنف الجنسي، بما في ذلك الاغتصاب الزوجي، بنسبة 6%، بينما 1.6% فقط من النساء اللاتي تعرضن للعنف الزوجي لجأن إلى الشرطة للإبلاغ.
ترجع المحامية هبة عادل، رئيسة مؤسسة المحاميات المصريات لحقوق المرأة، انخفاض نسبة الإبلاغ عن جرائم العنف ضد النساء، إلى عدم توافر أماكن آمنة يمكن للنساء اللجوء إليها بعد تقديم البلاغات كما الحال في محافظة أسوان، موضحة أن تلك الأماكن قد تكون بعيدة عن أسرهن وأطفالهن، مما يزيد من خطورة الوضع عليهن.
العنف ضد النساء والفتيات هو أي فعل من أفعال العنف القائم على النوع الاجتماعي يؤدي أو من شأنه أن يؤدي إلى أذى أو معاناة جسدية أو جنسية أو عقلية للنساء والفتيات، بما في ذلك التهديد بمثل هذه الأفعال أو الإكراه أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء في الحيز العام أو الخاص، بحسب منظمة الأمم المتحدة.
ويشمل العنف ضد النساء والفتيات، على سبيل المثال لا الحصر، العنف الجسدي والجنسي والنفسي الذي يحدث في الأسرة أو داخل المجتمع العام، والذي ترتكبه الدولة أو تتغاضى عنه.
لا بديل لمراكز الاستضافة
ورغم أن بعض منظمات المجتمع المدني تلعب دورًا بديلًا لمراكز استضافة المرأة المعنفة التابعة للتضامن، حيث تقدم مراكز للإيواء أو الاستضافة، إلا أن عدد هذه المراكز محدود للغاية، وفق هبة عادل، بسبب الصعوبات التي تواجه الحصول على الموافقات اللازمة لتوفير الإيواء.
تقول لـ"عين الأسواني": "وبالتالي، تقتصر جهود تلك المنظمات في الغالب على تقديم خدمات فورية مثل الدعم القانوني والنفسي، بينما يبقى توفير مكان للإقامة الآمنة أمرًا غير متاح بشكل كافٍ".
لم تكن رانيا الوحيدة التي تتعرض للعنف الجسدي في أسوان. في كوم أمبو تخلص زوج من زوجته ذبحًا بسكين أثناء نومها وفر هاربا في أغسطس 2024، بدافع ما يراودها من هواجس نفسية ومشاكل عائلية.
عقب أشهر قليلة، شهدت مدينة دراو في يناير الماضي، واقعة مقتل ربة منزل على يد زوجها بعد أن ذبحها بسكين بسبب خلافات عائلية. بينما في ديسمبر عام 2021، كان هناك سيدة حامل في طفلها في مركز كوم أمبو أكثر حظًا، حيث نجت من الموت بعد تعرضها للتعذيب لمدة 13 ساعة على يد زوجها، بسبب مطالبته بمصاريف الولادة.
رحلة البحث عن مكان آمن للمعنفات
تشير منظمة الأمم المتحدة إلى "قتل الإناث" بأنه مصطلح يشير إلى القتل العمد للنساء لأنهن نساء، ولكن يمكن تعريفه على نطاق أوسع ليشمل أي قتل للنساء أو الفتيات، و يختلف قتل الإناث عن قتل الذكور في نواحٍ معينة.
على سبيل المثال، معظم حالات قتل الإناث يرتكبها شركاء أو شركاء سابقون، وتنطوي على الاعتداء المستمر في المنزل، أو التهديد أو التخويف، أو العنف الجنسي، أو المواقف التي تكون فيها المرأة أقل قوة أو موارد أقل من شريكها.
على هامش تلك الحوادث، ربما يكون الوضع أسوأ في أسوان، التي لا تضم فقط مركز استضافة النساء المعنفات ولكن لا يوجد بها "وحدة المرأة الآمنة" التي أنشأتها وزارة التضامن الاجتماعي في مستشفيات الجامعات؛ لإسعاف ومساعدة النساء اللواتي يتعرضن للعنف بأنواعه، وفق الدكتورة سحر عيسى، مديرة وحدة مناهضة العنف ضد المرأة بجامعة أسوان.
تقول لـ"عين الأسواني": "لا تضم أسوان مركز استضافة النساء المعنفات وكذلك لا توجد وحدات آمنة للمرأة رغم أنها بدأت في بعض الجامعات الأخرى، لذا نطالب بإنشائها في المحافظة".
وحدة المرأة الآمنة مشروع أطلقته وزارة التضامن بالشراكة مع الجامعات الحكومية وصندوق الأمم المتحدة للسكان العام 2018، بهدف القضاء على أشكال العنف ضد المرأة، وأنشأت أربعة وحدات في مستشفيات جامعات (القصر العيني، أسيوط، المنصورة، عين شمس) لم تكن أسوان من بينهم.
بينما وحدة مناهضة العنف ضد المرأة بجامعة أسوان، فهي تهدف إلى توفير بيئة جامعية آمنة خالية من أي نوع من العنف أو التمييز، وتقدم دعمًا نفسيًا وقانونيًا، بالإضافة إلى حملات توعوية تستهدف الجمهور العام خارج الجامعة وفق سحر عيسى، مديرة الوحدة.
فيما يتعلق بآلية عمل الوحدة، توضح أن أي فتاة تتعرض للعنف أو تواجه مشكلة يتم التعامل معها بسرية تامة، وإذا كانت المشكلة كبيرة، ترفع مذكرة إلى مجلس الإدارة ورئيس الجامعة لمناقشتها واتخاذ الإجراءات اللازمة.
وفي تصريح صحفي سابق خلال أكتوبر عام 2023، أوضحت الدكتورة جاكلين ممدوح مدير إدارة المرأة في وزارة التضامن الاجتماعي، أنه جار افتتاح 3 مراكز أخرى في محافظات كفر الشيخ، دمياط، بورسعيد، موضحة أن اختيار المحافظات يكون وفقًا لدراسة جدوى تحدد الاحتياج الفعلي ومدى انتشار ظاهرة العنف ضد المرأة في المحافظة ولكن لم تكن أسوان من بينهم.
نساء تحت مقصلة العنف بأنواعه
ورغم ذلك، رصد تقرير مرصد جرائم العنف الصادر عن مؤسسة إدراك للتنمية والمساواة (غير حكومية) تسجيل 261 جريمة قتل لنساء وفتيات خلال عام 2024 نتيجة للعنف الأسري. وقد شهدت محافظة أسوان ثلاث حالات قتل ارتكبها أفراد من العائلة أو شركاء حاليون أو سابقون، وهي حالات تم الإبلاغ عنها.
لكن المحامية هبة عادل، رئيسة مؤسسة المحاميات المصريات، تؤكد أن تلك الحوادث ليست معبرة بالضرورة عن الواقع، إذ أن نسبة الإبلاغ عن حالات العنف لا تزال ضعيفة للغاية، وتقتصر على ظروف محددة للغاية.
توضح لـ"عين الأسواني": "الفتاة قد لا تُقدم على الإبلاغ إلا إذا وجدت عوامل دعم، مثل وجود عائلة أو أشخاص متفهمين يساندونها. كما يجب أن تكون الفتاة على دراية بأهمية الإجراءات القانونية وفوائد الإبلاغ، بالإضافة إلى ضرورة توثيق الواقعة أو تقديم أدلة قوية تدعم الاتهام".
وتؤكد أن المعايير الدولية الخاصة بدور الإيواء للنساء المعنفات تتطلب أن تكون هذه الأماكن بعيدة عن المناطق السكنية العامة، وأن تظل سرية، خاصة في حال وجود تهديدات أو خطر على النساء، وهو ما لم يحدث في أسوان نتيجة عدم وجود مراكز استضافة للنساء المعنفات.
مخاطر اختفاء وحدات المرأة
يكشف الدكتور عبداللاه صابر عبدالحميد، وكيل كلية الخدمة الاجتماعية في جامعة أسوان، خطورة عدم وجود مراكز لاستضافة المعنفات في أسوان، موضحًا أن العنف ضد المرأة يعد ظاهرة ذات أبعاد اجتماعية معقدة.
ويضيف لـ"عين الأسواني" آثار العنف ضد المرأة تمتد لتؤثر ليس فقط على المرأة نفسها، بل على جميع أفراد الأسرة التي تتولى مسؤوليتها، حيث تنعكس الآثار النفسية على دورها داخل الأسرة".
بينما تكشف المحامية هبة عادل، جانب آخر للأزمة، إذ تواجه الفتيات مشكلة أن بعض الجهات المسؤولة عن تنفيذ القانون في بعض المناطق قد تكون مرتبطة بعلاقات عائلية قوية: "وهذا يعني أنه إذا قررت الفتاة الإبلاغ عن العنف، قد يُرفض البلاغ أو يتجاهله المسؤولين، مما يزيد من تعقيد الوضع، لذا لا بد من قانون فعال وواضح لحماية النساء المعنفات".
محاولات مناهضة العنف ضد المرأة
تعددت المحاولات والجهود لسن تشريعات تهدف إلى حماية المرأة من العنف، لكنها تظل محدودة وغير متاحة بشكل كافٍ، خاصة في المناطق البعيدة عن المركزية مثل محافظات الصعيد ومن بينها أسوان.
بدأت تلك الجهود منذ عام 2018 عندما تقدمت النائبة نادية هنري بمشروع "القانون الموحد لمكافحة العنف ضد المرأة" لكنه لم يناقش.
وفي مارس عام 2022، تقدمت قوة العمل من المنظمات النسوية بالتعاون مع النائبة نشوى الديب بمشروع قانون موحد لمناهضة العنف ضد المرأة في البرلمان المصري، موقّعًا من 60 نائبًا ويتضمن 53 مادة منها ما يتعلق بالعنف الأسري، ومع ذلك، لا يزال المشروع معلقًا دون إقراره، رغم اقتراب انتهاء الدورة البرلمانية.
لذا، تشير النائبة أمل سلامة لـ"عين الأسواني" إلى غياب قانون واضح يعاقب مرتكبي العنف الأسري، وخاصة الأزواج الذين يعتدون على زوجاتهم بالضرب. حيث قدمت اقتراحًا قانونيًا منذ عامين يعرف باسم "قانون ضرب الزوجات"، ويهدف إلى تعديل المادتين 242 و243 من قانون العقوبات، ويركز التعديل على تشديد العقوبات على الاعتداءات الجسدية بين الزوجين.
وتؤكد سلامة أن أهمية هذا القانون تزداد مع تزايد حوادث العنف في المجتمع، مطالبة بسرعة إقرار القانون ومناقشته في البرلمان.
حاولنا التواصل مع الدكتورة مايا مرسي، وزيرة التضامن الاجتماعي، عبر الاتصال الهاتفي ورسائل الواتساب؛ لمعرفة أسباب عدم إنشاء مركز لاستضافة المرأة المعنفة في أسوان، والجهود التي تقوم بها الوزارة لمكافحة العنف ضد المرأة بالمحافظة، لكننا لم نتلق رد حتى نشر التقرير.
بين الجهود غير المثمرة التي تقوم بها مؤسسات الدولة لمكافحة العنف ضد المرأة، تظل نساء أسوان، من بينهن رانيا وغيرها، في حيرة من أمرهن: إلى أين يذهبن في حال تعرضن للعنف؟ إذ لا تزال أسوان تفتقد وجود مراكز استضافة النساء المعنفات أو الوحدات الآمنة للمرأة، ويبدو أنه لا مكان آمن للنساء المعنفات في أسوان.