بعلم الوصول.. أمل السودانيات في لم الشمل

تصوير: أمنية حسن

كتب/ت أمنية حسن
2023-08-14 00:00:00

أربعة أيام أمام معبر أرقين الحدودى بين مصر والسودان قضتها زهراء - اسم مستعار- مع أطفالها الثلاثة أملًا في العبور هربًا من خطر الحرب التي عاشتها في مدينة أم درمان السودانية، عقب اندلاع الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منتصف أبريل الماضي.

"كان الوضع صعب في معبر أرقين البري، جلسنا على الأرض وسط تكدس الباصات".. هكذا تصف زهراء معاناتها، بينما تمسك بأيادي ثلاثة أطفال أكبرهم ست سنوات وأصغرهم طفلة رضيعة.

قررت زهراء وزوجها السفر معًا إلى القاهرة بحثًا عن الأمان وحياة جديدة، وخاصة أن أخيها سبق له الإقامة في القاهرة منذ سنوات للعمل؛ إلا أن قرار تأشيرة الدخول المفعل وقتها منع زوجها من الدخول إلى الأراضي المصرية.

وسمحت السلطات المصرية بعد اندلاع الأزمة في أبريل الماضي بدخول الأطفال والنساء والرجال من كبار السن  إلى مصر من دون تأشيرة دخول، باستثناء ضرورة حصول الشباب بين سن 16 و 49 سنة على تأشيرة دخول مسبقة تُستخرج من القنصلية المصرية في بورتسودان ووادي حلفا بالسودان.

حين وصلت زهراء وزوجها إلى معبر أرقين واستعدوا والأطفال للدخول إلى مصر، مُنع الزوج من العبور لعدم حصوله على تأشيرة الدخول المقررة لمن هم أقل من 50 عام؛ لذا قرر العودة إلى حلفا للحصول على تأشيرة الدخول من القنصلية المصرية هناك.

اضطرت زهراء استكمال الرحلة بمفردها والعبور إلى أسوان بشكل مؤقت ـ بقرار من زوجها - لحين حصوله على التأشيرة ثم السفر معًا إلى القاهرة. 

لم يكن سهلًا على الأسرة الرحيل عن السودان، لكنهم عاشوا ويلات الحرب ومخاطرها التي هددت حياتهم ليضطروا ترك منازلهم، تقول زهراء وهي تتذكر مشاهد  الحرب وأصوات القذائف: “كانت الأوضاع في أم درمان خطيرة، قررت الرحيل بحثًا عن مكان آمن لأطفال، كنت بالخارج عند جيراني وتركت أطفالي هناك، عُدت فوجدت قذيفة هبطت على منزل الجيران وقصفت غرف الأطفال وأسقطت مروحة السقف".

أسرعت زهراء الخطى نحو المنزل فوجدت أطفالها بخير، لكن تأثر منزلها بالقصف ولقى جيرانها الستة في منزلها المجاور حتفهم جراء القذيفة.. حملت زهراء هاتفها واتصلت بزوجها وأبلغته بلهجة حاسمة: “علينا أن نرحل فورًا لننجو من الموت".

زهراء واحدة من آلاف السودانيين الذين فرّوا من بلادهم عقب النزاع، إذ تقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسيف" إنه منذ 15 أبريل الماضي ما لا يقل عن 450,000 طفل أجبروا على الفرار من منازلهم، بما في ذلك 368,000 منهم من النازحين، و82,000 فرّوا إلى البلدان المجاورة.

باعت زهراء وزوجها "توك توك" يملكه لتدبير نفقات السفر، تقول: “بسبب الأزمة استطعنا بيعه بـ 800 ألف جنيه سوداني  فقط"، ما يعادل 41 ألف جنيه مصري.

واجهت زهراء وزوجها ارتفاع تذاكر السفر، في البداية اعتقدا أن التذكرة الواحدة تكلفتها 30 ألف جنيه سوداني أي ما يعادل 1500 جنيه مصري، وهو متوسط السعر الذي اعتاد من حولها دفعه عند السفر من السودان إلى مصر، إلا أن سعر تذكرتين كلفهما 350 ألف جنيه سوداني، وهو ما يعادل 18 ألف جنيه مصري.

في الطريق إلى معبر أرقين جلست زهراء وزوجها على مقعدين بالحافلة، ووضعا أطفالهما بينهما، لكن بعد الوصول فوجئا بمنع الزوج من الدخول، لذا استكملت هي الرحلة بمفردها إلى موقف كركر، تقول زهراء:  “لا أعرف أين أذهب، أول مرة أسافر إلى مصر، لكن في موقف كركر وجدت خدمات متوفر لمساعدة القادمين، وحصلت على شريحة اتصال هاتفي مجانية للتواصل مع أسرتي في السودان، وساعدتني فتاة متطوعة في البحث عن سكن بأسوان بإيجار يومي بسعر منخفض، لحين حصول زوجي على التأشيرة ووصوله إلى مصر". 

"كنا نعيش في هدوء، ولم نعتد مثل هذه الفوضى، الضرب استمر وسقوط القذائف، وصرت لا اتحمل الصوت العالي وأنسى سريعًا أسهل  المعلومات، نحتاج إلى علاج نفسي لنسيان صوت الحرب"، تلك أبرز العبارات التي تحدثت بها زهراء، مستعرضة مشاهدة قاسية في رحلة الهروب من أم درمان إلى معبر أرقين.

تقول: “وجدنا جثثًا ملقاة في الشارع ولا نجد من يدفنها، وعلى الأقل قام زوجي بتغطية الجثمان بكرتونة، رائحة الموت تفوح في الشوارع، وجدنا ونحن نسير أشلاءً وأصابع". 

بُحزن تواصل زهراء حديثها: “لم أرغب في ترك بلادي.. لكن الوضع خطير وليس لدينا مكان هناك، ما تبقى لدينا من أموال بعد بيع التوك توك اقتسمتها وزوجي، والآن أسكن في شقة بإيجار يومي، والمتطوعة التي تعرفت إليها في موقف كركر تتواصل معي يوميًا وتساعدني إذا احتجت لأي شيء".

لا خطط للمستقبل لدى زهراء وأسرتها، هي في انتظار زوجها فقط، الأسئلة تدور في رأسها كل يوم.. “هل أذهب  إلى القاهرة أم انتظر زوجي ونذهب معًا.. الوضع في أسوان أفضل والمعيشة أرخص، لكن لا موعد محدد لوصول زوجي، أخبرني شقيقي أن الوضع في القاهرة أفضل وأن أطفالي سيحصلون على فرصة للتعليم الجيد، في السودان كانت المدرسة تعمل شهر وتُغلق ستة شهور". 

ووصلت زهراء إلى مدينة أسوان في 29 أبريل الماضي وحتى منتصف مايو الماضي موعد آخر تواصل مع زهراء لم يتمكن زوجها من الحصول على تأشيرة الدخول إلى مصر، لكن بعض المبادرات المعنية في أسوان وفرت لها ولأولادها تذاكر سفر للقاهرة لتلحق بأخيها لحين تحديد مصيرها.

للعبور إلى مصر كان يحتاج السودانيون الذكور فقط القادمون إلى مصر في المرحلة السنية بين 16 عامًا و49 عامًا إلى الحصول على تأشيرة دخول مسبقة، إلا أن القرار الجديد الذي فُعل في يونيو الماضي اشترط ضرورة الحصول على تأشيرات دخول مسبقة لجميع الأعمار والجنسين لدخول مصر عبر المعابر البرية المصرية "قسطل وأرقين" على الحدود مع السودان، وبذلك ينتهي قرار السماح بدخول الأطفال والنساء وكبار السن بدون تأشيرة مسبقة، وهذا نتج  عنه  تكدس السودانيين أمام القنصلية المصرية لأيام للحصول على تأشيرة الدخول.

مصطفى علاء الدين، سائق حافلات على خط قسطل، وهو دائم السفر بشكل يومي لنقل السودانيين من معبر قسطل إلى موقف كركر الدولي.

يصف مصطفى المشهد اليومي قائلًا: "في بداية الأزمة كانت التدافع كبير أما الآن أقل، ومعظم المسافرين عائلات، أسافر لتوصيل بين خمس إلى ست عائلات بعدد 50 فردًا تقريبًا، وعند معبر قسطل أرى تكدس العائلات للعبور، والبعض حتى بعد الحصول على تأشيرة الدخول يرفض العبور في انتظار حصول باقي أفراد الأسرة على التأشيرة، لأنه من الصعب ترك الأسرة الأخ أو الزوج واستكمال الرحلة بمفردهم".

وتسكن رباب فضل الله بداخل غرفة بالطابق الأرضي لأحد نُزل الشباب استأجرتها فور وصولها إلى أسوان مع ثلاثة من أطفالها "فتاة في المرحلة الثانوية وولدين في المرحلة الابتدائية"، وهذه لم تكن الزيارة الأولى لها إلى مدينة أسوان، فسبق قدومها في رحلة علاج طفلها، وخلال أسبوع من الوصول إلى مدينة أسوان، بدأ أطفالها في اكتشاف المكان واللهو في أحياء المدينة.

ورغم معارفها الكثيرة في أسوان منذ سنوات طوال؛ إلا أنها رباب لا ترغب في تصبح حملًا ثقيلًا على أحد ما خاصة مع الأوضاع الاقتصادية التي يعاني منها الجميع، فقررت البحث عن سكن يناسبها هي وأطفالها الثلاثة، خاصة وزوجها لم يستطع الرحيل معهم وترك السودان لعمله في جهاز الشرطة هناك.

في الخرطوم بمنطقة شرق النيل شهدت رباب وأسرتها مشاهد الدمار التي لحقت بالمدينة من صوت الطيران المستمر في السماء ووابل الرصاص، ولازالت تسمع كل يوم هذه الأصوات في ذاكرتها.

تقول: "المنازل حولنا كانت تُقصف، وكل يوم يزداد الوضع سوءًا، وكنا ننام ساعة واحدة فقط ونستيقظ من الرعب بشكل متكرر، ومشكلتنا كانت الخروج من الخرطوم لاحتمالية تعرضنا لأي تهديد، لكن كنا نفكر بنظرة مستقبلية هل سيستمر الوضع أم يسوء؟".

وتصف رباب وضع المدينة التي قررت تركها قائلة: "عانينا من نقص في السلع التموينية واستمرار عمليات السرقة والنهب بالمدينة، المياه كانت مقطوعة لعشرين يومًا، والكهرباء تنقطع في مناطق وتعود للعمل في مناطق أخرى، وقررنا الرحيل دون التفكير في أي خطط أو ترتيبات، أهم شيء كان أمان أطفالي، وطلبت من باقي عائلتي وأخوتي أن يرحلوا معي إلى مصر، لكن البعض لا يملك جواز سفر والمصالح الحكومية معطلة، وكل فرد متمسك بالآخر، الرحيل معًا أو البقاء وسط التهديدات".

لأيام ظلت رباب تتردد بين مكاتب السفر للحصول على تذاكر سفر بسعر مناسب، خاصة مع ظهور مستغلي الأزمة والسوق السوداء: "كنت أقضي الأيام بين مكاتب السفر للحصول على تذاكر بأقل سعر، وفي إحدى زياراتي لمكتب حجز السفر أخبرني الموظف أن هناك حافلة ستتجه بعد ساعات إلى معبر قسطل، فاشتريت التذكرة الواحدة بما يعادل 18 ألف جنيه مصري، لكن قبل الحرب كانت سعر التذكرة ما يعادل 1200 جنيه مصري".

تواصل: "اتصلت بأولادي في المنزل وأخبرتهم أن يجهزوا حقائبهم، وسأعود للمنزل لأخذهم، وحمل كل منا غيارين من الملابس وجوازات السفر، وفي أثناء خروجنا كان الضرب مستمر والدخان يملأ السماء، والخروج من المدينة كان الخطر الأكبر من أن نتعرض داخل الحافلة لأي قذيفة أو حتى سرقة، وأثناء سفرنا شاهدنا مقتل فردين من قبل اللصوص للحصول على أموالهم لكن بعد خروجنا من المدينة كان الوضع أكثر أمانًا".

ووفًقا لوزارة الصحة الاتحادية بالسودان فالاشتباكات بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع لمدة 30 يومًا متتالية مستمرة خاصة في الخرطوم وما حولها وذلك حتى 14 مايو وقد أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 676 شخصًا وإصابة 5,576  آخرين منذ بدء النزاع”..

وفي معبر قسطل أحد المعابر البرية المخصصة لعبور السودانيين بعد اندلاع الأزمة، والذي يعد  الخيار الأفضل للسودانيين لوجود القنصلية المصرية التي تصدر تأشيرات دخول المواطنين من الرجال السودانيين؛ كانت رباب أكثر حظًا من غيرها فرحلة العبور استغرقت ساعات قليلة وإجراءات سريعة حتى الوصول إلى موقف كركر الدولي أول محطة يصل إليها المسافرين.

في التاسع من مايو الماضي وصلت رباب" إلى معبر قسطل.

تتابع: "كانت العائلات مكدسة في انتظار باقي أفراد أسرتهم للحصول على تأشيرة الدخول، وانتقلت بعدها إلى موقف كركر، وكانت تكلفة الانتقال من الموقف إلى أسوان للفرد الواحد 50 جنيه مصري، وفي ميكروباص حمل عائلات سودانية انتقلت بعدها إلى سكن يومي عرفته من عائلة سودانية مقيمة بأسوان، وسعر الإقامة أفضل مقارنة بأسعار الإيجارات".

لذا قررت رباب البقاء بهذا السكن، تضيف: "لكن لا أعرف هل البقاء بشكل دائم أم مؤقت خاصة أن زوجي يعمل في الشرطة ولا يستطيع اللحاق بنا إلا إذا انتهت الأزمة، أعيش اليوم بيومه واعتمد على الوجبات الجاهزة من المطاعم لعدم وجود مطبخ في السكن، بالإضافة إلى المبادرات التي تقدم وجبات مجانية من فترة لأخرى".

تتساءل بحيرة طويلة: "لا أعرف ماذا سيحدث في المستقبل وكيف أعيش، هل أبحث عن وظيفة"، أنا لم أعمل من قبل، وإذا فعلت ماذا سأعمل، وذهبت إلى مدرسة سودانية بأسوان لمعرفة إمكانية استكمال أولادي تعليمهم، وإذا جاءت فرصة العودة للسودان سنعود قبل أن تضيع عليهم سنة دراسية كاملة، فعندما تركنا السودان كان أولادي في فترة امتحانات توقفت مع اندلاع الأزمة".