يُعدّ سمك الفسيخ الأكلة المحببة والأساسية لغالبية المصريين في شم النسيم، ويتناولونها في الحدائق والمنتزهات خلال الاحتفال باليوم الذي يدخل ضمن الأجازات الرسمية في مصر.
ويرتبط أكل المصريون للأسماك المملحة ومن ضمنها "الفسيخ" منذ ما قبل الميلاد، فقد دوام المصريون القدماء على تناول الأسماك التي كانت أحد أطعمة الفقراء إلا أنواع معينة منها، لذا كانت تمليحها أحد أركان تقضيتهم للاحتفالات، والتي كان منها استقبالهم للربيع.
وتحمل النقوش والرسوم على مقابر ومعابد الأقصر والجيزة وأسوان وقنا وسوهاج كيف أن السمك المملح، كان وجبة شعبية منتشرة في أوساط العمال وعامة الشعب، نظرًا لأنها كانت وجبة رخيصة الثمن، وهي العادة التي استمرت مع المصريين في الاحتفال بشم النسيم إلى اليوم، مثل تناول السمك المملح والفسيخ والبصل والبيض، وبعضها بدأ في الاندثار مثل تناول "الملانة"، وهو الحمص الأخضر.
وقد أشار عدد من الباحثين في المصريات إلى أصل "شم النسيم"، من ضمنهم فرانسيس أمين، الذي قال لوكالة الأنباء الألمانية أن فصل الربيع في مصر القديمة كان يعني "شمو"، وكانت بدايته عيدًا تقام به احتفالات دينية وشعبية، واعتبر رمزًا للبعث والحياة.
أما "الفسيخ" فيعود تسميته إلى طريقة صنعه، لأنه عند إضافة الملح وتخزينه يتفسخ من الداخل، ويصبح شديد التفكك خلال هذه الفترة.
ويُعد السمك عمومًا مصدرًا غنيًا بالبروتينات، وهي مكونات أساسية لبناء العضلات وتجديدها، وتعزيز صحة الجهاز المناعي، كما يحتوي على الأحماض الدهنية "أوميجا 3" وهي مفيدة لصحة القلب والأوعية الدموية وتقليل خطر الإصابة بأمراض القلب، إلا أن تمليح الأسماك هو الأزمة التي تثير قلق الأطباء طوال الوقت، نظرًا لخطورة تناول النسب العالية من الأملاح وتأثيرها على ارتفاع ضغط الدم،فضلًا عن جودة هذه الأسماك نفسها التي يتم حفظها لفترات طويلة، وذلك لتجنب الإصابة بالتسمم الغذائي، إذا تم إعدادها دون تنظيف أحشائها جيدًا.
وبعيدًا عن "أساطير" فوائد وأضرار الفسيخ والرنجة، فأنا أذكر أنني في صغري كنت أكره الفسيخ جدًا، وكنت أرى أنه سمك مُتعفن مُضر بالصحة، خاصة لعلمي أنه يُترك لمدة تصل إلى 15 يومًا، حتى يكتسب رائحة فواحة تُعجب من حولي، ولطالما كنت أرى أن هذه الرائحه سيئة، وعندما أشاهد أمي تأكل الفسيخ كنت اندفع خارج المنزل.
حتى جاء يوم وأنا في العاشرة من عمري، كانت صديقة والدتي في منزلنا، وكانوا يتناولون الفسيخ الأسواني المستخرج من نهر النيل وبحيرة ناصر، ويُسمّى طبقًا لوزارة الزراعة "كلب البحر".
أتذكر شكل المنضدة حتى الآن، إذ كانت تضمّ الفسيخ، إلى جانب البصل والخيار والطماطم والبطاطس المقلية، بالإضافة للتونة. وتذوقت الفسيخ، ويا للعجب أحببت طعمه اللذيذ كثيرًا، ومنذ ذاك الحين وأنا أتناوله في التجمعات فقط، نظرًا لأني لم استسغ طعمه إذا تناولته بمفردي، وفى إحدى الأيام كنت برفقة أصدقائي، وأخبرتهم أني تناولت الفسيخ، فوجدتهم ينظرون لي بكل اشمئزاز، ويقولون لي: لا، لماذا تأكلينه؟! نحن لا نحبه. وقتها تذكرت تعليقي لوالدتي وأقاربي قبل أن أجربه بنفسي.