بينما تُشير عقارب الساعة إلى الثانية عشرة من ظهر يونيو 2024، انتشر عمال اليومية على طول طريق الكورنيش الرئيسي بمدينة أسوان؛ بعضهم يطرق الرصيف القديم بمطرقته ثقيلة الوزن، وآخرين يحملون "الرتش" المُتفتت من قبضة المطرقة، والجميع يُدبّر رزق يومه من خلال تنفيذ أعمال تطوير الكورنيش ضمن خطة المحافظة لتطوير المدينة، وذلك تحت أشعة شمس حارقة، في المدينة التي سجل مطلع ذلك الشهر أعلى درجات الحرارة على الإطلاق عالميًا بـ49.6 درجة مئوية في الظل، وفقًا لما ذكرته هيئة الأرصاد الجوية المصرية.
تخللت تحركات "وردية العمال" على الكورنيش، خطوات مواطنين في طريقهم لوجهة أخرى، بينما استقرّ بعضهم بجانب العمال في مجموعات تنتظر استقلال المواصلات.
الجميع مُنخرط في تفاصيل حياته اليومية على رصيف الكورنيش، بينما تضيف حرارة الشمس المزيد من الأعباء، ليكسر الشاب محمد خضير محمد رتابة المشهد اليومي بابتسامة، قدّم بها نفسه للعمال والمارة، وفي يده كوب من العصير والماء المثلج، يُوزعهم على الجميع.
هنا وُلدت مبادرة "محمد" الشهير بـ"المصري"، ليحمل على عاتقه مهمّة صناعة وتوزيع العصائر المثلجة والمياه على المارة بعدد من شوارع مدينة أسوان يوميًا، في ساعات الظهيرة الحارة.
"شغلي بيسمحلي أتواجد كل يوم الضهر في الشارع وأوزع العصير والمياه"، هكذا بدأ محمد حديثه إلى عين الأسواني، ليضيف مُفسرًا "دخلي الرئيسي من الأعمال الحرة، كما أنني عضو ومحاضر مركزي في الهيئة العامة بقصور الثقافة، وشاعر عامية".
استهدف "محمد" عديد من المناطق بأسوان، الكورنيش والسيل ومنطقة مطلع الصداقة والعقاد ومحيط المستشفى العام، فيما كان دافعه الأساسي هو تخفيف أحمال الحرارة على كبار السن، في أماكن التجمعات وانتظار المواصلات وعمال اليومية ورواد البنوك ومكتب البريد.
ميزانية ومقاطعة
وحول الكميات التي يقوم بتوزيعها يوميًا، يقول "المصري": "لا يوجد كمية محددة يوميًا، بل حسب زحام الشوارع التي أزورها في اليوم، فأنا أشتري ما يُقارب من 30 كرتونة مياه تحتوي على 360 زجاجة، أُوزعها خلال يومين أو أكثر قليلًا، والميزانية غالبًا ما تكون من 600 إلى 1000 جنيه في اليوم الواحد".
بالطبع واجهت مبادرة "المصري" عدد من الصعوبات، بداية من إصراره على عدم شراء مياه تنتجها شركات مُدرجة ضمن قائمة المنتجات التي تُدعّم الاحتلال الإسرائيلي، وفي البداية كانت رحلة البحث عن متاجر تلتزم بالمقاطعة مُضنية.
يقول "المصري": "تعرفت على تاجر كبير، سلمني مياه من إنتاج شركات مصرية، حتى نفدت الكمية لديه، وبالطبع تُضاف مشكلة البحث عن منتجات مصرية إلى مشكلة الانتقالات، إذ إنني استخدم دراجتي النارية لشراء المياه والفاكهة والأكواب، واضطر بعد صناعة العصير، إلى نقل الكمية على مراحل لأماكن التوزيع المستهدفة، لأنّي أسعى دائمًا لعمل عصير من فواكه طازجة".
تبرعات
ويوضح المصري أنه لا يوجد أعضاء في المبادرة، لكن زميلته مايسة صلاح تُقدّم المساعدة في بعض الأيام، بتوفير سيارتها الخاصة للتوزيع، وهي التي تقوم بتشجيعه على الأعمال الخيرية دائمًا، وتشتري الطلبات المُستخدمة عن طريق تبرعات، مُضيفًا أنه اعتمد في البداية على أصدقائه من خلال نشر "بوستات" لجمع تبرعات على صفحته الخاصة بالفيس بوك، وتكون التبرعات أحيانًا مالية أو عينية بالمياه أو العصير المعلب.
فكرة المبادرة بعمل الخير لتخفيف حرارة الصيف على المواطنين لم تتوقف على توزيع المياه والعصير، بل يسعى "المصري" حاليًا بتصليح أجهزة مُبرّد المياه في الشوارع المختلفة، عن طريق فنيين التبريد، ولا يزال في مرحلة جمع بياناتهم والتواصل معهم.
احتفاء
ويُعلّق "المصري" قائلًا "أتمنى أن تضع جميع المحال التجارية أمام أبوابها مُبرّدات مياه صغيرة لتساعد المواطنين على تحمّل الأجواء الحارة، فمع درجات الحرارة الحالية نحتاج لتوفير المياه للمارة في كل مكان، وأؤكد لهم أن ما أقابله من احتفاء المارة بالمبادرة، سيجعلهم في سعادة بالغة، فالبعض يحتضنني عندما أعطي لهم العصير أو المياه، كما أن التزامي بالمقاطعة يلقى إعجابًا بالشارع الأسواني".