أمام قبة يعلوها تاج، وقف الشيخ محمود الونيني ينشد ما أعده للمديح، رغم أن الترتيبات لم تجر بمثل ما اعتاده زوار مولد السيدة عزيزة ابنة ذي النون المصري، والذي اُختتم في مساء الخميس الماضي.
تعوّد زوار المولد الذي يقام في مركز أخميم بسوهاج، أن يبدأ الاحتفال قبل ثلاث ليال من الختام، فينصب شادر الاحتفال، وتمد المآدب ويوزع اللحم والفول النابت والبليلة، قبل أن يتقدم منشد ليحيى المساء بالذكر، وكان المنشد الراحل أحمد التوني، يتبرع بإحياء تلك الليلة كل سنة.
هذا العام، بدأ كل شيء قبل ليلة واحدة من الختام، الذي لم يتسع برنامجه إلا لثلاث فقرات فقط، بدأت في التاسعة مساءً بتلاوة للشيخ رزق عواد الجعفري، ثم خطبة للشيخ أحمد فواز الطهطاوي، قبل أن يصدح صوت الشيخ محمود الونيني.
ولم يمنع قصر مدة الاحتفال زوار المولد، الذين توافدوا من أخميم وما حوله من مراكز وقرى، وقارب عددهم 5 آلاف شخص، من الاندماج مع الذكر، وترديد الهتافات خلف المنشد: "مدد ياست عزيزة مدد يا عمي الحواشي؛ مدد ياسيدي العارف؛ مدد يا سيدي أبوالقاسم؛ مدد ياشيخ دياب، مدد يا سيدي مصطفى؛ مدد يا أهل البيت”.
وولدت السيدة عزيزة ابنة ذي النون المصري، في التاسع من ربيع الأول، عام 190هـ ووالدها هو ثويان بن إبراهيم، وكنيته أبو الفيض، ويُلقّب بـ"ذا النون المصري"، وكان أحد أقطاب الصوفية المشهورين في مصر، ويمتلأ التراث الشعبي بقصص كثيرة عن كراماته وعلمه الديني.
وأما ضريحها؛ فقبة من الطوب يعلوها تاج، تحتوي على مدفنها الذي يعلو عن الأرض بنحو متر وعشرون سم، ويزوره الناس على مدار العام؛ يقرأون لها الفاتحة ويبتهلون إلى الله بأمانيهم وما يرجون تحقيقه.
ولعل ذلك الدافع، هو ما يحفز عادل محمد (55 عامًا) الذي يأتي إلى أخميم من مركز ساقلته "ليس فى ذكرى المولد فقط"، وإنما "كلما أكون متوجدًا فى المركز"، قائلًا لـ"أهل سوهاج" إن "السيدة عزيزة مكانتها غالية وعظيمة فى قلبي مثل باقي الأولياء”.
ورغم أن محمد سعد، وهو زائر آخر من زوار المقام، ما يزال في طور الطفولة، حيث يبلغ من العمر 16 سنة، فإنه يملك الدافع ذاته، ويرجع ارتباطه بالمولد إلى زمن طفولته، أو "منذ أن وعيت على الدنيا" حسبما يؤكد لـ"أهل سوهاج".
وربما جعلت تلك العادة طقوسًا خاصة لسعد، منها أن يستعد للمولد بملابس جديدة معطرة، لأن السيدة عزيزة حسبما يقول:"مكانتها بقلبي غالية، فعندما يزعجنى أمرًا أذهب إليها وأشكو همي".
وإلى جانب الأمنيات التي يتركها الزوار تسبح في عنان الضريح، تحرص النساء على شراء غطاء رأس جديد (طرحة) لتتركها فوقه مثل نذر، مثل عبير محمد (35 عامًا)، التي تسكن أخميم وتحرص أيضًا على زيارة المقام "منذ أن وعيت على الدنيا"، في طقس شبه يومي حسبما تؤكد لـ"أهل سوهاج" قائلة "دائمًا نزور المقام عندما نذهب لشراء طلبات المنزل"، لكن الوضع يختلف مع المولد، حيث تشتري "طرحة حتى أَضعها فوق المقام عندما أزوره”.
ويشرف على الضريح وتنظيم المولد عمر أبو جبل، نقيب السيدة عزيزة، وهي مسؤولية يتعامل معها -حسب قوله- بحب، بداية من الحصول على التراخيص اللازمة إلى تجهيزات الطعام والاتفاق مع المنشد ودعوة الزوار، ونشر برنامج الاحتفال عبر السوشيال ميديا، وهي مهمة تذهب مشقتها، بحسب تصريحه لـ"أهل سوهاج": "عندما يحين موعد الليلة الختامية، فتملأ البهجة والسرور قلوب أهالى المنطقة".
وتمثل طقوس الاحتفال بالمولد بالإضافة إلى قيمتها الروحية رافد اقتصادي لكثير من أهالي المنطقة الذين يعرضون بضاعتهم خلال الاحتفال، حسب أبو جبل الذي يقول: "يعتبر المولد مصدر رزق للبائعين وفرحة وسرور لأهالي المنطقة والزوار، حيث يأتي الزوار من مراكز عديدة منها مركز المنشاه والمراغة وطهطا، ومن محافظات مختلفة مثل قنا وبني سويف وأسيوط”.
ولا ينفصل حديث رواد المولد سواء من الزوار أو البائعين، عن ارتباط أيامه بـ"الرزق الوفير وتحقيق الأماني"، فلطالما كانت الموالد كلها فسحة نفسية للمصريين منذ قرون كثيرة، وربما ستظل كذلك لقرون تالية، طالما عاش الناس ينتظرون التسرية عن أنفسهم كل عام من خلاله.
محمد حسنين (45 عامًا) وهو أحد بائعي الحلوى، المترددين على المولد، ويرتبط به منذ طفولته بسبب أبيه الذي "كان بيجي يبيع زمان وأنا معاه، وكنا نروح البيت واحنا مجبورين الخاطر"، يقول لـ"أهل سوهاج" إن "الليلة مصدر رزق كبير، فنحن ننتظرها من العام إلى العام"، مفسرًا ذلك بقوله: "رغم غلاء الأسعار والصعوبة الاقتصادية التي تواجه المواطنين، بنروح واحنا مجبورين الخاطر".
ومثله البائع محمود السيد (35 عامًا)، الذي ينتظر "الليلة بفارغ الصبر، لأن فيها بركة غير عادية، مجرد ما بنفرش البضاعة بلاقيها اتباعت من أيام المرحوم والدي"، وكذلك يؤكد البائع أحمد مصطفي (20 عامًا) لأهل سوهاج أن "الليلة فيها كمية سعادة وفرحة مش طبيعية، لأنى هى دى الليلة اللي محدش بييجي فيها بحاجه ويروح مش راضي"، الأمر الذي يجعله يرجو أن يزيد الاحتفال لأكثر من ليلة كما كان في السابق.
أما محمود علي (43 سنة) الذي يبيع الألعاب للأطفال، فله رحلة مختلفة عن صناع وبائعي الحلوى، حيث يبدأ عمله قبل المولد بعدة أيام، يقول: "أشتري الألعاب من التاجر وأحمّلها على سيارة نقل، وأقوم بفرش البضاعة أمام ساحة المقام"، مؤكدًا لـ"أهل سوهاج "أحرص علي المشاركة لأنها مصدر رزقي، الليلة حلوة وجميلة ورزقها بيكون واسع غير كل اليالي اللى فاتت رغم غلاء الأسعار".
وهناك حكاية عن مقام السيدة العزيزة، التي تشتهر بين السوهاجيين بكرامات خاصة، حيث حاول أحد رؤساء المركز نقلها من مدفنها لتجديد وترميم المقام، فذهبت إليه بالمنام تطلب منه عدم فعل ذلك واستجاب لها بالفعل، وبغض النظر عن صدق تلك القصة من عدمها، فإن وجود ذلك المقام في مكانه، وما يثيره حوله من كل عام، صار جزءًا أساسيًا من مركز ومدينة أخميم، لا يمكن ذكرها دونه، مثل الميدان الذي يحتوي الضريح ويسمى باسمها.