الصباح المُظلِم والليالي التي أقضيها وحدي، إحكام غلق الأبواب بعدة أقفال حديدية لا أملك منها سوى مفتاح قصتي.. القلق يعرفني.. لا مجال هنا لوجود الخيل والليل والبيداء الذين يعرفون الشاعر المتنبي.. في الليل أذهب إلى النوم سريعًا قبل أن تحضر أفكاري.. السيف والرُمح والقرطاس أسلحتي.. بهم جرحت كرامتي.
أخاف من الأشجار حين تُجتَث من فوق الأرض، يُلقى بجذورها في سلة المهملات فتختلط بقصائدي التي خفت نشرها، يحل مكان الشجر كباري وأسفلت أشم رائحة تفاعل الشمس معه، أظنني سأموت يومًا مُختنقة بهذه الرائحة التي تُذكرني بمكاني كيف يتغير من حولي من دون اختياري، أو ما يُعرف بالاغتراب.
كطالبة جامعية مغتربة تزعجني أضواء المدينة، أحاول فهم خريطة المدن وأبعادها الاجتماعية.. رائحة دخان السجائر والشيشة تحاوطني في كل مكان، بينما آخر مرة استنشقت فيها هذا حين تم إنشاء مصنع أسمنت في قريتي.
المصنع تم غلقه بعدها بشهر حين مات شيخ البلد، واتهم السكان صاحب المصنع بالتسبب في قتله بسبب الدخان، وذلك برغم وفاته مصابًا بسرطان في المعدة، بعدما شخصه أطباء مصر "القاهرة" ورفضه الحصول على العلاج؛ حتى لا يعطله عن مهمته في القرية.
تشاهد نفسها من أعلى ميدان التحرير، وسط حشد من البشر، ملابسها ليست مثل البنطال "الجينز" والـ"تشيرتات" التي ترتديها بنات القاهرة، وتتمنى أن تشاهد الفتيات شيخ القرية، وتتخيله يضربهن بعكازه كما ضربها عندما عرف أنها تحب محمود ابن بائع التموين بالقرية التي عرفت كلها أن الشيخ شفاها من مرض الحب، وأن ضربة منه بالعُكاز تشفي كل مريض.
"محمود.. نفسي نتجوز وتدبحلي الطيور.. تعبت من إن أمي بتخليني أدبحها كل خميس.. عشان تعمل عزومة ملوكي يوم الجمعة.. أنا بخاف من الدم وهي بتقولي جمدي قلبك يا به.. علشان لما بنتك تعمل حاجة غلط تدبحيها.. طب لو عرفت انى بحبك هتعمل فيا إيه!؟.. دي حلّقت على العِجل مع أبويا اللي دبحه على شرف طهارة أختي الصغيرة من يومين".
عرفت القرية بكل كلمات الجواب، انتشر بينهم الأمر خوفًا من الذبح، ثم عرف الشيخ وفعل ما فعل، وبالإجبار تزوج محمود من ابنه عمه بعدها بأيام.
إحساسها بالقاهرة يذكرها بقريتها بعد واقعة محمود، المكان ليس مكانها، ولا يوجد مكان في هذا العالم تشعر أنه منزلها، الاغتراب كُتب على قلبها، رغم أنه بالأساس مكتوب في أوراقها الجامعية، لكنها أصدق الأوراق التي تعبر عنها بعد جواب محمود.
في هذا الجواب شاهدت نفسي، وأنا أخاف من الكباري وأعيش الاغتراب، شعرت أنني هي لكن بقليل من التغيرات في رسم الشخصيات كما تعلمت في دراستي الجامعية حتى أخلقهم داخل العالم المسرحي، لكن هي من رسمتني هذه المرة وأخبرتني أنني هي، قالت لي وهي تقلد صوت أمها "اجمدي يا به"؛ لذلك قررت ارتداء فستان على شرفها، وعلى شرف اغترابنا.