على أرفف شبه فارغة، تراصْ عدد محدود جدًا من عبوات اللبن الصناعي المخصص للأطفال، التي ستختفي في لمح البصر، من الصيدلية الواقعة بحي دار السلام جنوب القاهرة، مع زيادة الطلب على ألبان الأطفال، وسط أزمة عدم توافر العبوات الناتجة عن مشكلات الاستيراد المُقترنة بمشكلة السيولة الدولارية في مصر.
تسلسل الأزمات أثّر قطاع الأدوية، فأصابه نقص الأدوية، منذ بداية 2024، من بينها نقص الألبان المجففة الصناعية المخصصة للأطفال حديثي الولادة.
بينما يراقب نصيبه الضئيل من عبوات اللبن الصناعي، يقول محمد شريف (اسم مستعار) -صيدلي بدار السلام- إن الأزمة بدأت منذ عام تقريبًا، لكنها ازدادت سوءًا في مايو ويوليو الماضيين، فالصيدليات لم تضم سوى عبوة واحدة من كل نوع، فيما اختفى اللبن الصناعي العلاجي للأطفال مصابي حساسية اللاكتوز (حساسية الألبان) ومشاكل المعدة والارتجاع، لتصبح السلعة الأساسية لحديثي الولادة حلمًا قد لا يتحقق.
هذا الحُلم صعب التحقق، وضع ابتسام -اسم مستعار- في حالة دائمة من الإحساس بالعجز أمام جوع طفلها، حيث تعيش في حالة من البحث الدائم عن طعام ابنها، لتبدو وكأنها تتعرض لمجاعة، رغم تواجد الطعام في منزلها، لكنه لا يناسب عمر طفلها الذي وُلد منذ خمسة أشهر، حيث يعتمد على اللبن الصناعي كمصدر وحيد للغذاء، ويستخدم نوعًا مستوردًا شهيرًا بحسب ترشيحات الطبيب، وملاحظتها لعدم راحة طفلها لللبن المُدعّم التي تحصل عليها من الوحدة الصحية.
تحكي ابتسام أنها كانت تتمنى اعتماد طفلها على اللبن الطبيعي للأم، لكن ما باليد حيلة، واضطرت للدخول في دوامة البحث عن عبوة لبن، كغيرها من الأمهات اللاتي يعتمد أطفالهن على ذلك النوع، وتستكمل قائلة "أنا لما بلاقي علبة بشتريها، وغالبًا لما بتخلص بكون لقيت واحدة تانية، معنديش علبة زيادة علشان لو خلصت فجأة استخدمها، زهقت من الوضع ده خصوصًا إني بقيت بخاف العلبة تخلص فجأة، وملاقيش علبة أشتريها وابني يكون جعان".
مفاوضات وتحايل
حاولت ابتسام مُواكبة الواقع، وعمل تفاوض مع الصيدليات كبعض الأمهات والآباء، من خلال استلام لبن الوحدة الصحية، ثم بيعه للصيدليات مقابل شراء النوع المناسب لطفلها، لكنها لم تجد صيدلية تتفاوض معها، وعندما وصلت لصيدلية وافقت أخيرًا على هذا العرض لم تتوفر لديهم عبوات اللبن المستورد.
تلك المفاوضات لم تكن أمرًا غريبًا، فوفق "شريف" -صيدلي- فبعض الأمهات يلجأن لذلك، بسبب قلة جودة اللبن المدعم المُقدّم بالوحدات الصحية، بينما يرتفع الطلب عليه من الأسر التي لا تستطيع شراء اللبن المستورد بسبب سعره، إلى جانب عدم كفاية الحصة الشهرية التي يحصلون عليها من وزارة الصحة، لأن الطفل يحتاج إلى حوالي 7 أو 8 عبوات شهريًا، بينما الحصة تكون 4 عبوات.
لذلك تشتري الأسر حصة أطفالهم الناقصة بسعر 100 جنيه، بما يساوي 25 جنيه للعبوة، بينما يبلغ السعر الرسمي للعبوة في الوحدة الصحية 5 جنيهات، للبن من عمر يوم حتى ستة أشهر، تحت اسم "إيجي 1"، وهو من إنتاج شركة "إيجي ديري" المحلية، التي يقع مصنعها بالمنطقة الصناعية بمدينة العاشر من رمضان.
بينما تباع العبوات لسن 6 أشهر وحتى عمر عامين في الصيدليات، بسعر 26 جنيه، تحت اسم "إيجي 2"، وبعد التفاوض يدفع المشتري فرق السعر لاستلام اللبن المستورد.
وفي تصريح سابق لعلي عوف -رئيس شعبة الأدوية في الغرف التجارية- في أبريل الماضي لموقع "الحرة"، فقد أكد أن استهلاك السوق المحلية من حليب الأطفال سنويًا يبلغ نحو 50 مليون عبوة، حيث تستورد مصر نصفها من الخارج، بينما يُصنع نحو 25 مليون عبوة في أحد المصانع المحلية، وتُوزع هذه الكمية بالكامل على مستشفيات وزارة الصحة والتأمين الصحي، وتتوفر للمواطنين مقابل 5 جنيهات للعبوة، على الرغم من أن تكلفتها الحقيقية تصل إلى 150 جنيهًا، حسب تصريح عوف.
"جودة سيئة ومخاطر صحية"
لاتزال هاجر عبدالله -أم لطفلين من سكان دار السلام- تعاني من اختفاء اللبن المخصص للأطفال المصابين بحساسية اللاكتوز من الأسواق. منذ حوالي 5 أشهر اكتشفت إصابة ابنتها الرضيعة من الحساسية، ووصف لها الطبيب نوع لبن صناعي مخصص لحالتها، لكنها كررت زيارة الطبيب بعد زيادة الأزمة، فوصف لها قطرات حساسية يأخذها الطفل، كشرط لتناول واستخدام اللبن الأساسي المتوفر بالوحدة الصحية.
التجربة للوهلة لأولى، أشعرت هاجر بالخوف في البداية، فهي تُجازف بصحة طفلها، بينما في مكان آخر كانت تشعر كريمة أحمد -اسم مستعار- بخوف شديد لأنها قررت إطعام طفلتها بطعام "مهروس"، وهي في عمر ثلاثة أشهر، مما يُشكّل خطورة على صحته، فالطفل لا يبدأ في الأكل سوى بعد تجاوز الثماني أشهر أو سنة.
لكن كريمة اضطرت إلى ذلك مع اختفاء اللبن الصناعي، خاصة بعد تعرضها في إحدى رحلات بحثها عن اللبن الصناعي لاستغلال، حيث وفر لها صيدلي عبوتين من اللبن المدعم مقابل 50 جنيهًا.
لذا كان الطعام "المهروس" وسيلتها لإطعام رضيعتها، وبعد تعود الطفلة قليلًا عليه، ارتاح قلب كريمة، حسب وصفها لشعورها، إذ لم تصبح مقيدة بأزمة نقص اللبن الصناعي، وتكتفي بتوفير الحصة الشهرية الخاصة باللبن المدعم، وتقدمه كوجبة ضمن وجبات الطفلة اليومية، لكنها ليست الأساسية.
أزمة كريمة وأخريات استمرت لمدة عام، حسب حديث أبانوب عماد -صيدلي-، بينما يشير خلال حديثه لـ"صوت السلام" إلى الأرفف التي تحتوي على عبوات قليلة، مُعلقًا "متأكد إنها يوم أو يومين وهايتباعوا".
يشعر "أبانوب" بالغضب من الوضع الحالي للأزمة، كون اللبن الصناعي غذاء يعتمد عليه الأطفال في الشهور الأولى كمصدر اساسي، مُعلقًا"زيه زي السلع الأساسية.. مينفعش تختفي من السوق بالشكل ده!".
أزمة الاستيراد
بينما يوضح أنه بعد ما كان يحصل من مندوبي الشركات على كرتونة أو أكثر من النوع الواحد، ويظل لديه فائض في مخزن الصيدلية، أصبح يحصل على عبوة واحدة فقط من كل مندوب، كأغلب حال الصيدليات في الوقت الحالي، ولا سبيل سوى لبن الوحدة الصحية، الذي لا يُرجحه عماد بسبب سوء جودته وتوقعه لاحتوائه على السكر المضر بالأطفال في هذا العمر.
تؤكد على ذلك إيريني سعيد -عضو مجلس النواب وعضو لجنة الصحة بالمجلس- أن الأزمة ازدادت منذ بداية العام الجاري، بسبب اقترانها بأزمة نقص الأدوية والسيولة الدولارية، التي أثرت على حجم استيراد الألبان الصناعية غير المصرية، وبعض المواد الخام المرتبطة بصناعة الألبان المصرية، لكن منذ شهر أو شهرين –سبتمبر وأكتوبر الماضيين- بدأت أزمة الأدوية في الحل، وبالتالي توفر نسبة من الألبان الصناعية، ولاحظت ايريني أن الشكاوى المقدمة بخصوص الألبان قلّت خلال شهر نوفمبر الماضي مما يدل على توافر الألبان حتى لو بنسبة ضئيلة.
الأزمة لاتزال تأكل ميزانية كريمة وابتسام وهاجر وأخريات، يبحثن عن عبوة لبن واحدة فقط تضمن شبع أطفالهم ولو لأيام قليلة، فيما يلاحقهن شبح نفاد الكمية، في ظل تبعات أزمة نقص الدواء، التي تعرض أبنائهم لخطر الجوع.