نغمات موسيقى تكسر صمت غرفتي الصغيرة الهادئة، ولا يقطعها سوى صوت أنفاسي المتلاحقة التي تختلط مع الكلمات الدافئة التي تصفني.
أتعجب كيف يصفنا كاتب هذه الكلمات بدقة، وكيف يسرق أفكارنا وأسرارنا الدفينة!
استمتع بذوقي الموسيقي الغريب لفتاة عشرينية، يعجبها صوت عبدالحليم حافظ، وعذوبة صوت الست أم كلثوم، وقوة مشاعر أغنيات وديع الصافي، وميّادة الحناوي، وصلابة غناء مدحت صالح ومصطفى كامل، والدفء في صوت مصطفى قمر ومحمد فؤاد، ثم ماهر زين، وصولًا لأغنيات الجوكر وأمير عيد، وتميز صوت سمر طارق.
كل هؤلاء مختلفين في غنائهم، وما يجمعهم أنهم يُطربون آذاني، كيف جذبتني هذه الأغاني رغم اختلافها!
الآن أتذكر، كنت في حياتي المدرسية طفلة غريبة الأطوار لا تشبه الجميع، زميلاتي في الفصل يفضلن الأغنيات الناطقة باللغة الإنجليزية والفرنسية ثم الأغنيات الشعبية التي لم أفهمها ولا أشعر بها سوى في المناسبات، لا يعجبهن ذوقي الموسيقي، يرددن عبارات مستفزة مثل: “ذوقك قديم أوي وغريب في الأغاني يا فيروز.. تعيشين في قوقعة لوحدك.. اسمعي أغاني إنجليزية أكثر هتعجبك".
استمع لما يهواه أصدقائي وإن لم يعجبني فقط لأكون صاحبة ذوق حديث ولست قديمة، لكنني لم أعتد التغيير لأشبه غيري.. تربيت على أن أكون صاحبة رأي واختلاف حتى صاروا يقولون غريبة الأطوار، تلك التي تستمع إلى موسيقى قديمة وتقرأ كتب وترتدي نظارات وترتدي ملابس مريحة أعجبتها وتحافظ على دروسها.. هل تخيلت هيئتي!.. أنا فيروز الغريبة.
أشعر بالموسيقى داخلي..هل سمعت وديع الصافي وهو يتساءل "راحوا فين حبايب الدار؟" في أغنيته "دار يا دار"، أوجع قلوبنا حين تمزق قلبه فماذا وهو يغني؟.. ألم يتذكر طفولته وبيته يملأه ضجيج العائلة على مائدة طويلة؟.. هل يحن إلى وقوف الأطفال في مداخل البنايات يلعبون ولا يحملون هموم الحياة؟.. هل تذكر أحبائه الذين فقدهم؟.. لابد أنه بكى حتى ابيضت عيناه كما أبكى أنا الآن وأنا استمع للأغنية.
وميّادة الحناوي وهي تتحدث عن "الحب اللي كان".. هل تذكرت حب العمر الذي ضاع في الأيام؟.. كيف مرت عليكم عبارات: “كان يا ما كان.. الحب مالي بيتنا.. زارنا الزمان سرق منا فرحتنا والراحة والأمان".. هل شعرت بدموعك وهي تسيل؟.. أم استلمت للذكريات قبل أن يسرق منك الزمان راحتك؟
لا يمنعني إعجابي بالموسيقى القديمة من الاستماع لأغاني عصري.. لم أجد ما يصف شعور المغنية سمر طارق في أغنيتها الشهيرة "لو"، أتساءل كيف قاومت حزنها وهي تقول: “لو كان الحيط سامع همي الموجوع"، كيف لم تتحرر دموعها ولم ينغزها قلبها؟ أم أنها انهارت بكاءً بعد ما انتهت؟.
وأمير عيد حين قال "أنا كنت فاكر إني طاير أتاريني على وشي بقع"، كيف لم يتراقص في بداية المقطع وانتهت به اللحظة وهو صامد ينظر في الخواء؟؛ لأنه شعر بتلك المرة التي أخذته فيها أحلامه بعيدًا إلى السماء، ثم شعر فجأة أنه سقط أرضًا بعدما كانت يداه تلامس أحلامه أخيرًا.
أما "الجوكر" فكانت كلماته تبكيني، كنت أراني بطل قصته، تعلقت بأغنية "كوباية العصير" من منا لم تراوده نفسه في إنهاء حياته لكن كان ملاكه يمنعه!، هذه أغنية وصفت شعوري في كل مرة خُذلت، هكذا وصف "الجوكر" مشاعرنا المتضاربة وأفكارنا المتصارعة داخلنا.
يومًا ركبت سيارة مع إحدى الأصدقاء فوجدتهم يستمعون إلى أغنيات "الجوكر" بصوت يرج أرجاء المدينة، لم أشعر بنفسي سوى وأنا أغني معهم بصوت عالي، أغني وأنا أشعر بندوب قلبي تستيقظ مع ألحان الأغنية وكلماتها الحزينة، وذلك رغم شعور بالتحليق بعيدًا في عالم آخر.
لست غريبة، أظهر بشخصيتي وبذوقي الموسيقي.
أتذكر سيري في طريق سكني الجامعي وأنا في بلاد غريبة لا أحد يعرفني فيها، ولا يفهمون لغتي، أتجول وأصيح مع أغنيتي التي أسمعها بحرية دون سماعات أذن، أردد مع العندليب عبدالحليم حافظ: “شوف بقينا فين يا قلبي وهي راحت فين.. وتاني تاني تاني راجعين أنا وإنت تاني للنار والعذاب من تاني.. وأمانة يا دنيا أمانة تداوينا من جرح هوانا".
أتجول في الضواحي وأتراقص مع أنغام عبدالحليم التي تأسر روحي وتأخذني إلى بعيد إلى العالم الكامن داخل قلبي.. أشعر بلمسة في كتفي بحركة بسيطة، استدير للخلف، أراها هي "مي" فتاة جميلة تصغرني بعام، كانت أغنية عبدالحليم سبب معرفتنا، أو كما أطلق عليها دومًا بمن ألفتها روحي.
تسألني في اهتمام.. هل تسمعين عبدالحليم؟.. نعم أسمعه وأحبه، هل يمكنني مشاركتك؟.. فلا أحد من جيلنا يحب سماعه.. أرحب، هكذا بدأت قصتي مع الصديقة مي، هواياتنا متشابهة، كلماتنا وأحاديثنا لا نمل منها.
ذوقي الموسيقي الذي نفر منه الجميع صار سببًا لصداقة توطدت، مي صاحبة الذوق الموسيقي الغريب، أصبحت عادتنا الجلوس في شُرفة السكن نستمع لأغانينا المفضلة ونرددها بصوت عالي وبحماس وحب.
دائمًا ما ننغمس في سماع أغنيات معينة، فكيف يكون شعورنا عندما نسمعها مع أشخاص تحب أغانينا!
هل تشعرون بالدهشة لهذا الذوق الموسيقي لفتاة غريبة لم تتجاوز العشرين من عمرها!.. نعم اختلف عن الجميع بما أسمعه.. اعتدت الاختلاف، لم أعش كثيرًا لكنني أتذكر الماضي، أدرك نغمات الأغاني القديمة التي اعتدت سماعها في بيتنا مع تأثر والدتي، كبرت وأنا أتأثر وأتذكر.
كبرت وأجد أن الآخرين هم الغرباء.. كيف لا يتأثرون بأم كلثوم وهي تردد "كان معايا أجمل حكاية في العمر كله"، ويتأثرون بحسن شاكوش وهو ينادي حبيبته من أسفل شرفتها.. عجبًا!