بجانب المعدية المؤدية إلى مدينة بورفؤاد، يقع مجمع"belle vue" أو "المشهد الجميل" باللغة الفرنسية.. تحفة معمارية كانت تخطف أنظار المارة في محافظة بورسعيد، منذ تشييده عام 1894، كان يسميه البورسعيدية "تربيعة ناسيونال"، قبل أن يتحوّل قبل عدة سنوات إلى مبنى مهجور يكتفي المارة بالدوران حوله، وداخل هذا المجمع فندق البعض يربطه بالممثل المصري عادل إمام نسبة لفيلمه الشهير "المشبوه"، الذي تم تصوير مشاهد منه في فندق ناسيونال، وقام بإخراجه سمير سيف في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وآخرون لم يروا من تاريخ المبنى إلّا إهماله.
فمن أشهر فنادق المحافظة، إلى مبنى يُرثى له، بل يهدد الإهمال انهياره، فلم يتبق منه إلّا طابق واحد، رغم تسجيل المبنى تحت فئة (أ) في المباني التراثية، لمبنى بات مملوكًا حاليًا لشركة مصر القابضة للتأمين لإدارة الأصول العقارية، وهي شركة حكومية، وهي الجهة المسئولة عن المجمع بالكامل، الذي يشغل مساحة 6200 متر مربع، ويطل على أربعة شوارع رئيسية وهم "سعد زغلول، والجمهورية، والنهضة، وممفيس"، وتجاوره فنادق أخرى وهي نورماندي، وسبلنديد، وماجستيك.
لا يعرف أحد في بورسعيد مصير المجمع ولا فندق "ناسيونال"، ولكن التجارب تقول أن تسجيله كمبنى أثري ذو طراز معماري مميز، ليس ضامنًا لحمايته، فلسنا بعيدين عن مبنى مقر القنصلية الأمريكية ذي الصفة الأثرية، الذي خرج من هذا السجل في 2018 بقرار رسمي من وزير الإسكان، وهدمه صاحبه الذي اشتراه بعد سلسلة من عمليات البيع، دون أن يستطيع أحد منعه.
كلما مررت على المبنى وأرى ما حل به من آثار الإهمال، أتذكر ما قرأته عن محافظ مدينة بون الألمانية، الذي أمر بمنع سير السيارات حول مبنى في أحد شوارع المدينة بسبب تخطي وجود المبنى مائة عام، وذلك خوفًا من تأثره بأي اهتزازات.
في بورسعيد توجد آثار مسجلة في عداد الآثار الإسلامية والقبطية، وأخرى مباني ذات الطابع المعماري المتميز، وفقًا للقانون فهي في حماية من الهدم، ولكن ثغرة القانون التي تسمح لأصحاب المباني رفع قضايا تطعن في أثريتها، جعلت بعض هذه المباني تحت تهديد الزوال.
من أبرز المنشآت الأثرية داخل بورسعيد هي "الجامع العباسي، وقاعدة تمثال ديليسبس، ومبنى هيئة قناة السويس، والفنار القديم، وكنيسة سانت أوچيني"، وأيضاً هناك آثار مازالت تحت التسجيل وهى "تمثال ديليسبس، وطابية الديبة، والكنيسة اليوناني، وكنيسة الظهور الإنجليزي، وكنيسة العذراء والملاك ميخائيل المعروفة بـ الكاتدرائية، ومسجد التوفيقي، ومبنى القنصلية الفرنسية المعروف بـ بڤيلا أوچيني، والبيت الإيطالى، وفندق ناشونال، ومبنى المحكمة ببورفؤاد".
حينما نستمع إلى القصص التي تحمل تاريخ آبائنا وأجدادنا نعلم وقتها ما هي القيمة الثقافية والحضارية للتراث الأثري والمعماري، هذا التراث الذي شهد الاحتلال والعدوان الثلاثي ومن ثم الجلاء والتأميم، كل ما حاضره الآباء والأجداد من حضارة وثقافة تبرز للأجيال الحاضرة المعاني والقيم والهوية العمرانية المرتبطة بتراثنا العمراني، كيف نهمل كل هذه الآثار وغيرنا من الأمم يحافظون على هويتهم الحضارية؟ لماذا يغيب الوعي وتغيب البرامج والفعاليات التي تقام في مواقع الآثار والاحتفاء بالزوار وإكساب المعارف، وخلق مهن جديدة تسهم فى تنمية المجتمع المحلي وتحسين دخل أفراده.
فكما نستمع إلى المؤتمرات الاقتصادية أو الخطابات التي تخبرنا بمدى فقرنا، يجب أيضًا أن ندرك جيدًا القيمة الاقتصادية للمنشآت الأثرية، فلسنا مجرد "فقراء أوي"، فإذا فكرنا في عدد المواقع والمنشآت الأثرية الموزعة على أغلب أحياء مدينتنا فقط، والتي يمكن تحقيق استفادة كبيرة منها دون هدمها، وأن المدن التي تتوافر فيها الآثار تمتلك قيمة إضافية تمكنها من استقطاب المزيد من الاستثمارات السياحية، يجب أن نتسائل متى سوف يتم استثمارها، وإعادة تأهيلها، والترويج لها بهدف خلق مزيد من فرص العمل وإحياء المهن والحرف التقليدية لكل ما هو قديم وتراثي؟.
"لا نظير لعمائر بورسعيد فى العالم حيث أجمع الأثريون أنه لا توجد مدينة في العالم بها عمائر خشبية مكونة من أربع وخمس طوابق مأهولة بالسكان حتى الآن"، هذا كان لسان حال الأديب البورسعيدي الراحل قاسم عليوة وهو يصف بورسعيد بالطرز الإنسانية قبل أن تكون أوروبية أو إسلامية، وعبر عن فنار بورسعيد أنه الفنار الخرساني الأول على مستوى موانئ الكرة الأرضية، وما من فنار مثله سوى واحد بُني بعدها بأعوام ببريطانيا.