كان عبدالرؤوف محمد، مزارع من محافظة المنيا، يحدوه الأمل في أن يشهد موسم حصاد القصب وإنتاج السكر هذا العام زيادة في سعر التوريد الحكومي، حتى يجني ثمار جهوده المُضنية طوال عام كامل من الزراعة والمتابعة.
ولكن مع إعلان الأسعار الجديدة، خابت آماله، إذ لم تواكب الزيادة البالغة 500 جنيه هذا العام، ارتفاع تكاليف الزراعة من أسمدة ومبيدات وأجور عمالة، لذا يواجه تحديات مالية تهدد استمراره في زراعة القصب في مركز دير مواس بالمواسم المقبلة.
يقول بأسى: "نعمل بجّد طوال العام، وننتظر موسم الحصاد بفارغ الصبر على أمل تحقيق ربح يعيننا على الحياة، لكن الأسعار لا تزال غير عادلة، ولا تغطي سوى بالكاد نفقاتنا فما بالك بالربح، سعر التوريد الحكومي غير عادل ولا يراعي تكاليف الزراعة، لذا نحاول البحث عن منافذ أخرى للبيع والكسب".
يعاني مزارعو القصب في المنيا من تدني سعر التوريد الحكومي، حيث لا تتناسب الزيادات السنوية مع التكاليف المتصاعدة للزراعة. هذا الوضع يدفع العديد منهم إلى العزوف عن توريد محاصيلهم للمصانع الحكومية، مفضلين بيعها إلى عصارات العسل الأسود التي تقدم أسعارًا أعلى، ما يؤدي إلى تراجع كميات القصب الموردة للحكومة، ويهدد المساحات المزروعة في المنيا، ويؤثر على صناعة السكر.
أسعار التوريد
أنشأ معدّ التقرير قاعدة بيانات خاصة تكشف تطور سعر التوريد الحكومي لمحصول قصب السكر في المنيا على مدار السنوات الـ11 الماضية، استنادًا على أرشيف الأخبار في الصحف.
وأظهرت البيانات أنه منذ عام 2015 حتى 2025، ارتفع سعر التوريد تدريجيًا بنسبة 625% فقط، حيث زاد من 400 جنيه للطن عام 2015 إلى 2500 جنيه عام 2025.
وخلال الفترة من 2015 إلى 2018، استقرت الزيادة السنوية عند 100 جنيه فقط، في حين لم يشهد سعر التوريد أي زيادة خلال أعوام 2018 و2019 و2020.
أما في الأعوام 2023 و2024 و2025، ارتفع متوسط الزيادة السنوية إلى 500 جنيه، وهو ما يعكس اتساع الفجوة بين أسعار التوريد الحكومي والتكاليف الفعلية للزراعة، الأمر الذي يفاقم الأعباء على المزارعين.
تناقص مساحات قصب السكر
يتحدث عصفور حامد، 40 عامًا، مزارع قصب من مركز أبو قرقاص بالمنيا، عن تكاليف الزراعة: "تكلفة زراعة الفدان تبلغ 60 ألف جنيه، تشمل 10 آلاف تقاوي، و10 آلاف سماد، و20 ألف عمالة، بالإضافة إلى 20 ألف إيجار الفدان".
لذا لجأ عصفور إلى بيع محصول قصب السكر هذا العام إلى عصارة للعسل الأسود في المنيا: "أرعى الأرض وأزرعها لمدة عام وتكلفني الكثير وفي النهاية أكسب من التوريد الحكومي قرابة 20 ألف جنيه فقط، بينما يصل سعر التوريد للعصارة إلى 110 آلاف جنيه".
في يناير العام 2024 تناقصت مساحات قصب السكر في المنيا من 100 ألف فدان إلى 33 ألف فدان، حيث استقرت المساحات المزروعة عند هذا الحد عدة سنوات، وفق دراسة بحثية للدكتور محمد ناجي، أستاذ الاقتصاد الزراعي المساعد في كلية الزراعة جامعة الأزهر بأسيوط العام 2024 بعنوان: "اقتصادية لإنتاج قصب السكر في مصر دراسة حالة محافظة المنیا"، استند فيها على بيانات وزارة الزراعة.
خلّصت الدراسة إلى أنه حتى عام 2022، احتلت محافظة المنيا المرتبة الخامسة بين محافظات مصر من حيث المساحة المزروعة من قصب السكر، حيث بلغت 36,449 فدانًا، بإجمالي إنتاج سنوي يصل إلى 749 ألف طن من السكر.
وبحسب دراسة بحثية أخرى لـ"معهد بحوث الارشاد الزراعي والتنمية الريفية" (حكومي يتبع مركز البحوث الزراعية بوزارة الزراعة واستصلاح الأراضي) العام 2022 بعنوان: "تطبيق ممارسات الري الرشيد لدى مزارعي قصب السكر في بعض قرى محافظة المنيا"، تضم المحافظة أكبر ثلاث مراكز من حيث المساحة المنزرعة من قصب السكر وهي (ملوي - دير مواس - أبوقرقاص).
وخلصت الدراسة إلى أن قرية المحرص بمركز ملوي تضم 1,200 مزارعٍ لقصب السكر، وتبلغ مساحتها 1,629 فدانًا، بينما تضم قرية تانوف بمركز دير مواس وفيها 820 مزارعًا، بمساحة 1,205.20 فدان، أما قرية ساقية موسى بأبو قرقاص تضم 380 مزارعًا، بمساحة 755.14 فدان، وهذه القرى الثلاث هي الأكبر في محافظة المنيا من حيث زراعة القصب.
مزارعون: "العصارات تدفع أكثر لنا"
ورغم المساحات الواسعة المزروعة من القصب، فإن توجه بعض المزارعين لتوريد محاصيلهم إلى عصارات العسل الأسود بدلاً من المصانع يمثل تحديًا كبيرًا، وفقًا للدكتور أيمن حسني، مدير معهد المحاصيل السكرية بوزارة الزراعة.
يوضح لـ"المنياوية" أن هذا الاتجاه يعود إلى الأسعار المرتفعة التي تقدمها العصارات مقارنة بأسعار التوريد الحكومي للمصانع، مما يجعلها خيارًا أكثر جاذبية للمزارعين، لذا تسعى وزارة الزراعة إلى معالجة هذه المشكلة خلال السنوات المقبلة، حتى يعود التوريد إلى مصانعها مرة أخرى.
يعد أبوقرقاص أحد أكبر مصانع قصب السكر الحكومية في المنيا، تبلغ طاقته الإنتاجية 6 آلاف طن قصب يوميًا، ويُنتج المصنع جزءً من إجمالي الإنتاج المحلي للسكر في مصر الذي يبلغ 2.4 - 2.8 مليون طن سنويًا، بينما تتراوح المساحات المزروعة من القصب في مصر بين 340 و350 ألف فدان.
إلا أن المصنع توقف خلال العام 2024 بسبب قلة التوريد وعاد للعمل مطلع يناير الماضي، إلا أن تدني أسعار التوريد ما تزال تدفع المزارعين للهروب من التوريد له.
منهم خالد عزام، 35 عامًا، مزارع من مركز ملوي بالمنيا، يوضح أنه ورّد هذا العام فدان من أرضه إلى المصنع، بينما باع فدان آخر لأصحاب عصارات العسل الأسود: "سعر توريد الفدان للمصنع الحكومي 75 ألف جنيه لكن العصارة 110 ألف جنيه، وأنا أولى بهذا المكسب".
يوضح أن المصنع بدأ في توفير سيارات لنقل المحصول من المزارعين إليه مجانًا، لكن ما يزال تدني سعر التوريد عائقًا أمام المزارعين لذا يفضلون التوريد للعصارات بدلًا من الحكومة.
يعتبر محصول قصب السكر من المحاصيل المعمرة في الأرض، حيث يبقى حوالي 12 شهرًا في حالة القصب الربيعي، ومن 16 إلى 18 شهرًا في حالة القصب الخريفي.
أصحاب العصارات: "التوريد الحكومي غير عادل"
يقول حسين محمد، 45 عامًا، صاحب عصارة في مركز ملوي، إن الإقبال على العصارات يفوق المصانع بسبب الأسعار المرتفعة التي تقدمها، موضحًا أن بعض المزارعين في المنيا اضطروا اللجوء إلى العصارات لكسب المال المستحق من المحصول بعد إغلاق مصنع أبوقرقاص.
يضيف: "أُغلق المصنع وتدنى سعر التوريد للمزارعين خلال العام الماضي في وقت ترتفع فيه كل يوم تكاليف الزراعة لذا أصبح التوريد إلينا أكتر، لأن سعر الفدان يتراوح بين 100 ألف و130 ألف جنيه وفق كمية الإنتاج والمزارع لا يهتم سوى بتحقيق أكبر ربح له".
يشرح علاء سيد، 50 عامًا، صاحب عصارة في مركز أبو قرقاص، عملية التوريد: "الطلب على العصارات يزداد في بعض الفترات، مما يدفعني إلى تأجير العصارة للمزارعين ليقوموا بعصر القصب وتحويله إلى عسل أسود بأنفسهم، مقابل حصولي على إيجار العصارة، ويتولى المزارع بيع العسل بنفسه".
معهد المحاصيل السكرية: "لدينا خطط للحل"
بينما الدكتور أيمن حسني، مدير معهد المحاصيل السكرية بوزارة الزراعة، يؤكد أن الوزارة تعمل على تحقيق توازن بين إنتاج السكر والعسل الأسود، مع فرض قيود على العصارات فيما يتعلق بالإنتاج وكميات التوريد لهم لضمان استقرار السوق.
يقول: "نسعى لضمان سعر توريد عادل لمحصول قصب السكر، إذ إن تدني سعر التوريد مع تراجع الإنتاجية لا يغطي التكاليف التي يتكبدها الفلاحين وقت الزراعة، لذا نخطط إلى رفع إنتاجية وحدة المساحة، بحيث تنتج المساحة الموردة للمصانع والتي تبلغ 250 ألف فدان، بين 10 و12 مليون طن من القصب، مما سيؤدي إلى زيادة إنتاج السكر وتعزيز الاكتفاء الذاتي منه بدلًا من تحويل السكر إلى عسل في العصارات".
يعلق على ذلك، رضا عبد الرسول، يعمل في مصنع سكر أبوقرقاص لـ"المنياوية": "عصارات العسل الأسود ومحلات العصير تعتبر منافسًا قويًا للمصنع، إذ ترفع سعر التوريد؛ مما يجعل المزارعين يعزفون عن التوريد الحكومي مهما قدمنا من تسهيلات مثل النقل المجاني واستلام المزراع مستحقاته في الحال".
بشكل عام، يُورِّد المزارعون نحو 250 ألف فدان من قصب السكر إلى المصانع الحكومية، بإجمالي إنتاج يتراوح بين 7 و8 ملايين طن سنويًا، ما ينتج حوالي 800 ألف طن من السكر، وفقًا للدكتور أيمن حسني، موضحًا أن كل طن من القصب يُنتج ما يقرب من 100 كيلوجرام من السكر، الذي يُباع في الأسواق المحلية بسعر 27 جنيهًا للكيلو.
تهديد صناعة السكر
غير أن تدني سعر التوريد الحكومي يهدد استمرارية زراعة القصب، مما قد يؤدي إلى انخفاض الإنتاج المحلي من السكر ويؤثر على سعره في الأسواق، وفق حازم المنوفي، عضو شعبة المواد الغذائية بالغرفة التجارية.
يوضح لـ"المنياوية" أن الجزء الأكبر من استهلاك السكر في مصر يعتمد على الإنتاج المحلي، ومع ذلك، واجهت الدولة العام الماضي تحديًا في تحقيق الاكتفاء الذاتي، ما اضطرها إلى استيراد مليون طن من السكر لتعويض الفجوة.
يضيف: "تمتلك مصر مخزونًا كافيًا من السكر لمدة تسعة أشهر، ورغم ذلك هناك فجوة قدرها 400 ألف طن بين إنتاج السكر البالغ 2.6 مليون طن والاستهلاك السنوي حوالي 3 ملايين طن، ما يجعل صناعة السكر في مصر تواجه تحديات عدة".
تواصلنا مع الدكتور محمد القرش، المتحدث باسم وزارة الزراعة، للحصول على رده بشأن تدني أسعار التوريد وتأثيرها على صناعة السكر، إلا أنه أحال المسؤولية إلى معهد المحاصيل السكرية ووزارة التموين.
وعند التواصل مع أحمد كمال، المتحدث باسم وزارة التموين، طلب منا التواصل مع هاني محمد، مدير المركز الإعلامي، الذي بدوره ألقى بالمسؤولية على صلاح فتحي، رئيس شركة السكر والصناعات التكاملية، ورغم محاولاتنا المتكررة للتواصل معه عبر الهاتف ورسائل تطبيق "واتساب"، لم نتلق أي رد منه حتى موعد نشر التقرير.
تتضاءل آمال عبدالرؤوف محمد في جني ثمار جهوده وتكاليف زراعة قصب السكر سنويًا، بينما عصفور ما يزال يورد محصوله إلى العصارات؛ مما يحرم الدولة من عوائد إنتاج السكر، ويضع الصناعة أمام تحدٍ مستقبلي صعب، بينما تتأرجح كفة أسعار التوريد بين المصانع والعصارات.