الصرف الحي بـ"أبو الريش".. الأزمة مستمرة و"أي كولاي" لم يغير الوضع

تصوير: حبيبة ابراهيم - سيارة نزح "طرنشات" بقرية أبوالريش

كتب/ت حبيبة إبراهيم
2025-03-06 15:08:32

"لقد شاخت أجسادنا ونحن ننتظر حلًا، سنوات طويلة قضيناها دون أن ينظر إلى شكوانا أحد".. هكذا بصوت يحمل في طياته عقودًا من الألم، بدأ محمد حسن، أحد سكان قرية أبو الريش بحري بأسوان، حديثه، وبينما يحيط بالرجل السبعيني الذي يجلس على عتبة منزله، آثار المعاناة اليومية التي يسببها غياب الصرف الصحي في قريته، قال في أسى: "كل بيت هنا صنع حفرة تحت الأرض للتخلص من الفضلات، لكنها ليست حلًا، إنها عبء علينا وعلى الأرض، نحن نعيش وسط الروائح الكريهة، ونمرض، وننتظر حلولًا لن تأتي".

حديث محمد حسن ليس مجرد شكوى فردية، بل صدى لحكاية قرية بأكملها، حيث يعيش أكثر من 60,000 نسمة وفقًا لإحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2018 في هذه القرية، تحوّلت الحياة اليومية إلى معركة مستمرة ضد الأوضاع المعيشية المتدهورة، حيث تفتقر غالبية المنازل إلى نظام صرف صحي آمن، مما يضطر السكان إلى حلول بدائية غير آمنة، تترك أثرها الصحي والبيئي المدمر.

معاناة يومية

منى حسن، جارة محمد حسن، وهي ربة منزل، تحكي معاناتها اليومية قائلة: "كل يوم اضطر إلى حمل مياه غسيل الملابس وسكبها في الطريق العام، ظهري لم يعد يتحمل أشعر أنني أعيش حياة لا كرامة فيها، كيف أربي أطفالي في هذا الجو؟".

 أما رحمة رمضان، الطالبة في المرحلة الإعدادية، فتختصر الأزمة ببراءة تمتزج بالألم: "الرائحة الكريهة تمنعني من الدراسة عندما يتأخر والدي في تفريغ الطرنش، تصبح الحياة جحيمًا أريد فقط أن أعيش في بيئة نظيفة".

بحسب ما نُشر على صفحة "عين الأسواني" ، فقد رصدت المستشفيات الحكومية والوحدات الصحية في القرية إصابة 480 شخصًا بكتيريا الإي كولاي منذ 13 سبتمبر 2024، مع توقع وجود حالات غير مُبلّغ عنها.

حنان عبد الفتاح، ممرضة في الوحدة الصحية لقرية أبو الريش بحري، أكدت أن الحالات في الوحدة تراوحت من 5 إلى 6 إصابات يوميًا، لكنها تُحوّل إلى وحدة أبو الريش قبلي أو إلى المستشفى الجامعي بسبب عدم تواجد طبيب مقيم بوحدة القرة، التي لا تزال حتى بعد معالجة أزمة تفشي "أي كولاي"، تعاني نفس الأسباب التي تفشّى المرض عبرها، حيث تسببت شبكة المياه في نقل العدوى. 

مخالفات قانونية واحتجاج شعبي

يُذكر أن عددًا من أهالي قرية أبو الريش، تظاهروا وقطعوا طريق أسوان القاهرة الزراعي، بالقرب من نجع الشيخ علي، في 21 سبتمبر 2024، احتجاجًا على تزايد أعداد الإصابة بالنزلات المعوية داخل القرية، فيما دشّن عدد من الأهالي هاشتاج "انقذوا أهالي أبو الريش" في 25 سبتمبر 2024، بسبب تزايد عدد الإصابات بـ"النزلات المعوية"، في محاولة منهم لجذب الأنظار إليهم بهدف التحرك من الحكومة لتنفيذ مطالبهم، والتي تتمثل في تغذية المنطقة بالمياه من محطة جبل شيشة بدلًا من محطة الشيخ علي- المعروف باسم مرشح أبو الريش-، وإيجاد حل لاختلاط مياه الصرف مع مياه الشرب.

وكشف تقرير نشرته "عين الأسواني" عن توجيه سكان القرية عدد من الشكاوي، حصلت عين الأسواني على صورة ضوئية من إحداها، والتي حملت رقم 4862019، وقدمت في 24 فبراير 2022، من قبل محامية عدد من السكان، تُدعى أماني أحمد مأمون، وهي إحدى سكان نجع الشباب بقرية أبو الريش قبلي، وأرفقت المحامية بالشكوى توقيعات أهالي القرية على الشكاوي، وصورًا من غرق عدد من المنازل بسبب البيارات المستخدمة لعدم وجود شبكة الصرف الصحي.

كما كشف التقرير عن حصول أهالي القرية على حكم من محكمة القضاء الإداري، في أبريل 2021، بوقف صرف مياه الصرف الصحي في النيل، بعد أن أقامت المحامية أماني أحمد مأمون، والمحامي محمد حربي، الدعوى القضائية رقم 4562 محكمة القضاء الإداري.

الحكومة تطعن 

لكن الأهالي فُوجئوا بعد صدور الحكم بوقف الصرف، بأن الدولة طعنت على الحكم، بحسب ما ذكرت المحامية، وهو مايُعدّ مخالفة دستورية واضحة، لثلاث مواد أساسية، أدرجت في الفصل الثاني من الباب الثاني الخاص بالمقومات الأساسية للمجتمع، وهي المواد رقم 44 و 45 و46 ،من الدستور المصري المعدل في 2019، والتي تنص على التزام الدولة بحماية نهر النيل، وأن حق كل مواطن فى التمتع بنهر النيل مكفول، ويحظر التعدى على حرمه أو الإضرار بالبيئة النهرية، وتكفل الدولة إزالة ما يقع عليه من تعديات، وذلك على النحو الذى ينظمه القانون.

فيما أقّرت المادة 46، بحق كل شخص فى بيئة صحية سليمة، وحمايتها واجب وطنى، وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ عليها، وعدم الإضرار بها، والاستخدام الرشيد للموارد الطبيعية، بما يكفل تحقيق التنمية المستدامة وضمان حقوق الأجيال القادمة فيها.

كما أنها مخالفة واضحة أيضًا لقانون رقم ٤٨ لسنة ١٩٨٢ والصادر في يونيو من نفس العام، في شأن حماية نهر النيل والمجارى المائية من التلوث، والذي يحظر في مادته الثانية صرف أو إلقاء المخلفات الصلبة أو السائلة أو الغازية من العقارات والمحال والمنشآت التجارية والصناعية والسياحية، ومن عمليات الصرف الصحي وغيرها في مجاري المياه على كامل أطوالها ومسطحاتها.

كما تخالف أيضًا وثيقة النيل، التي وقعها الرئيس عبدالفتاح السيسي، في ٢٣ أبريل ٢٠١٥، إيذانًا بإطلاق الحملة الشعبية لحماية النيل، التي تستهدف حماية النهر الخالد من التعديات والتلوث وحفاظًا عليه كمصدر وحيد للحياة في مصر.

عُمّال الطرنشات.. في قلب الأزمة

"نعمل يوميًا لنقل الفضلات إلى محطة الرفع عند موقف الأقاليم قرب كلية الهندسة، لكن الطلبات كثيرة، وكل نقلة تكلف الأهالي 85 جنيهًا، وهو مبلغ باهظ لكثيرين ويزداد بشكل متكرر قد يصل إلى 10 جنيهات كل شهرين"، هكذا وصف محمود بسطاوي، أحد العمال المسؤولين عن تفريغ الطرنشات، الأزمة التي يعيشها الأهالي يوميًا

 وأوضح أن الوحدة المحلية توفر الخدمة بتكلفة 80 جنيهًا للنقلة، وفي بعض الأيام يتجاوز عدد الطلبات 15 نقلة يوميًا من مختلف نجوع أبو الريش، وهو عدد طلبات النزح الذي يؤكد مدى انتشار استخدام "الطرنشات" وانعدام البنى التحتية لشبكات صرف صحي.

تطوير على الورق

في مواجهة هذه الأزمة، أعلنت محافظة أسوان، في 5 سبتمبر 2024، عن اعتماد المحافظ اسماعيل كمال، لمشروع إحلال وتجديد بعض شبكات مياه الشرب والصرف الصحي في قرية أبو الريش، ليغطي أكثر من 125,000 نسمة بمحطة معالجة بطاقة 25 ألف متر مكعب يوميًا، لكن المشروع، الذي انطلق في سبتمبر الماضي، لا يزال بعيدًا عن تلبية الاحتياجات الفعلية للسكان.

محمد أحمد، أحد المتضررين، عبّر عن إحباطه قائلًا: "نحن لا نحتاج وعودًا نريد أن نرى التغيير بأعيننا نحن مرهقون من الانتظار".

ومع بطء تنفيذ المشروع، اضطر بعض سكان القرية إلى حفر الطرنشات على أعماق أكبر، ما أدى إلى ظهور مغارات تحت المنازل، مما يُشكل تهديدًا بانهيارها في أي لحظة.

اعتراف رسمي 

اعتراف الجهات المسؤولة، وعلى رأسها محافظة أسوان، بمشكلات الصرف الصحي ومياه الشرب في أسوان، وقرية أبو الريش تحديدًا، لا يعد أمرًا صعبًا. 

ففي سبتمبر من عام 2003، نشر مكتب شؤون البيئة التابع لمحافظة أسوان، تقريرًا فنيًا بعنوان "لتوصيف البيئي لمحافظة أسوان "، والذي كشف عدم توافق المصارف بمدينة أسوان، مع معايير جودة المياه السطحية المنصوص عليهـا فـي قانون ١٩٨٢/٤٨، وأنه في العديد من الحالات، ربما تمثل مخاطر صحية على الـسكان نتيجـة لحدوث التلوث المحتمل للكائنات المسببة للأمراض (البكتيرية والفيروسـية) مـن مخلفـات المراحيض. حيث ترجع الكثير من مشكلات الرعاية الصحية في المحافظة في الواقـع إلـى الصرف الصحى وتعتبر أكثر الأمراض المسجل حدوثها بين السكان هي تلـك الأمـراض الناتجة عن تلوث المياه مثل الالتهاب الكبدي و التيفود.

كما كشف التقرير أن كمية مياه الصرف الصحى المنصرفة من المنـازل فـي محافظـة أسـوان تُقدّر بحـوالي ٤٦,٢٥٠ متر مكعب يوميًا، وتُجرى معالجة حوالي ثلث هذه الكمية، في حـين يُصرّف الثلثـين لآخرين ٨٤,٣١٥ متر مكعب يوميًا، دون معالجة. 

كما اعترف التقرير بأن مستوى محطات معالجة مياه الصرف الصحي في المناطق الريفية منخفض، كما أن معظم المنازل لا يوجد لها شبكة صرف صحى أو نظام معالجة، ولكنها تقوم بتصريف مياه الصرف غير المعالج في المصارف. وتتكرر رؤية طفـح شـبكة الـصرف الـصحى وبالوعات المجاري المسدودة وخزانات التحليل، وتعاني معظم القرى من مشكلة التخلص من مياه الصرف، إما من خلال بيارات مفتوحة القاع أو تكـسح إلـى المـصارف أو التـرع أو الأراضي الصحراوية. وتشكل مياه الصرف الصحى مصدرًا رئيسيًا لتلوث المياه الـسطحية وهي بالفعل المصدر الاساسى للكائنات المسببة للأمراض. 

صحة الإنسان والزراعة 

الأزمة لا تقتصر فقط على المنازل، بل تمتد إلى الأراضي الزراعية أيضًا فبحسب دراسات بيئية محلية، فإن تسرب مياه الصرف الصحي إلى التربة يؤدي إلى تدهور جودة الأراضي الزراعية، مما يهدد مصدر الرزق الأساسي للكثير من الأسر.

وقد سبق، في 10 أغسطس 2018، وأن شهد سكان نجع الملقطة بمنطقة أبو الريش شمال مركز أسوان، تسرب مياه الصرف الصحى إلى منازل المنطقة قادمة من مصدر مجهول بالنسبة لهم من باطن الجبال. 

عبد الرحمن حسن، أحد كبار السن في القرية، يسترجع بدايات المشكلة: "عندما كنت طفلًا، لم تكن هناك شبكة صرف صحي، لكن عدد السكان كان أقل، والمياه الجوفية لم تكن ملوثة بهذا الشكل اليوم، أصبحنا نخشى على صحة أطفالنا، ونرى الأمراض تنتشر أمام أعيننا دون تدخل فعلي من الجهات المختصة".

علي محمود، سائق شاحنة نقل الصرف الصحي، قال: "أحيانًا أضطر للعمل لساعات طويلة لنزح الطرنشات، وفي بعض الأيام لا نستطيع تلبية جميع الطلبات بسبب الضغط الهائل الكثير من الأسر تؤخر النزح بسبب التكاليف، مما يؤدي إلى فيضان الطرنشات في الشوارع".

تأخر الميزانيات

وعند التواصل مع أحد المسؤولين المحليين، أكد مصدر في المجلس المحلي – خ.م قائلًا: "القرية مُدرجة ضمن خطة التطوير، ولكن تأخر الميزانيات يمثل العائق الأساسي أمام التنفيذ".

خبراء الصحة حذروا من أن الوضع في أبو الريش يمثل بيئة خصبة لانتشار المزيد من الأمراض، خاصة بين الأطفال وكبار السن، الدكتور أحمد سلامة، طبيب متخصص في الأمراض الباطنية بأسوان، أكد أن تلوث المياه بالصرف الصحي يزيد من معدلات الإصابة بالأمراض المعوية، وقد يؤدي إلى تفشي أمراض خطيرة مثل الكوليرا والتهاب الكبد الوبائي إذا لم يتم التعامل مع المشكلة بسرعة.

بين روائح الطرنشات، وآلام الظهور المنحنية، وأمراض الأطفال، يرفع سكان أبو الريش بحري أصواتهم بحثًا عن حياة تليق بإنسانيتهم ومع استمرار الأزمة دون حلول جذرية، تتفاقم معاناة الأهالي يومًا بعد يوم، لتظل هذه القرية نموذجًا صارخًا لغياب الخدمات الأساسية عن آلاف المواطنين الذين لا يملكون سوى الصبر وانتظار المجهول. 

تصوير: حبيبة ابراهيم - نزج الطرنشات بقرية أبو الريش